الملة الإبراهيمية (5) ذكر إبراهيم عليه السلام في الكتاب المقدس عند أهل الكتاب

  • 1482

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقـد جـاء ذكـر الخليل عليه السلام فـي الكتب المقدسة الثلاثة: "التوراة والإنجيل والقرآن"، وكلها تشير إلى مكانته العالية في الدِّين، وتضفي عليه ما هو أهل له من المديح والثناء.

فقد جاء في (سفر التكوين) في الإصحاح الثاني عشر: "إن الرب قال لإبراهيم: اذهـب مـن أرضك، ومن عشيرتك، ومن بيت أبيـك إلى الأرض التي أربيـك، فأجعلك أمة عظيمة، وأباركك وأعظم اسمك وتكون بركة، وأبارك مَن يباركك، ومن يلعنك ألعنه وفيك تتبارك جميع قبائل الأرض، فذهب إبراهيم كما قال له الرب، وذهب معه لوط".

وفي الإصحاح السابع عشر: "ظهر الرب لإبراهيم وقال: أنا الله القدير سر أمامي، وكن كاملًا فاجعـل عهدي بيني وبينـك، وأكثرك كثيرًا جدًّا، فخـر إبراهيم ساجدًا وتكلَّـم الله معـه قائلًا: أما أنا فهو ذا عهـدي معك، وتكون أبـًا لجمهور من الأمم، وأثمرك كثيرًا جـدًّا، وأجعلك أممًا ومنك ملوك يخرجون، وأقيم عهدي بيني وبينـك وبين نسلك من بعدك في أجيالهم هكـذا أبديًّا لأكون إلهًا لك ولنسلك من بعدك، وأعطي لك ولنسلك من بعدك أرض غربتك، كل أرض كنعان ملكًا أبديًّا، وأكون إلههم" إلى أن يقول: وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه ها أنا أباركه وأثمره، وأكثره كثيرًا جدًّا اثنى عشر رئيسًا يلد وأجعله أمة كبيرة ... ".

وجاء في الإصحاح الحادي والعشرين عند ذكر قصة الفـداء: "ونادي ملاك الرب إبراهيم ثانية من السماء وقال: بذاتي أقسمت إني من أجل أنك فعلت هذا الأمر، ولم تمسك ابنك ووحيدك، أباركك مباركة وأكثر نسلك تكثيرًا كنجوم السماء".

وفي (العهد القديم) كذلـك عـدا مـا ذكـرنـا إشـارات كثيرة إلـى إبراهيـم عليه السلام منها ما يذكره ليذكر عهد الرب له، ومنها ما يصفه ويصف بعض أخباره، وقد جاء وصف إبراهيم بالخلة في (كتاب الأيام الثاني) حيث يقول في الإصحاح العشرين: "ألست أنت إلهنا الذي طردت سكان هذه الأرض أمام شـعب إسرائيل، وأعطيتها لنسل إبراهيم خليلك إلى الأبد". 

وجـاء ذكـر إبراهيم أيضًا في المصادر النصرانية، وإن كان ذلك على ندرة، ففي الإصحاح الثامن مـن (إنجيل متى) يقول المسيح عليه السلام: "الحق أقـول لـكـم: لـم أجد في إسرائيل إيمانًا بمقدار هذا، وأقول لكم: إن كثيرين سيأتون من المشارق والمغارب ويتكئون مع إبراهيم وإسحاق ويعقوب في ملكوت السماوات، وأما بنو الملكوت فيطرحون إلى الظلمة الخارجية".

وفي الإصحاح الثاني من (إنجيل يوحنا): أن المسيح قال لليهود الذين آمنوا به: "إنكم إن ثبتم في كلامي، فبالحقيقة تكونون تلاميذي، وتعرفون الحق والحق يحرركم، فأجابوه: إننا ذرية إبراهيم ولم نستعبد لأحدٍ قط؛ فكيف تقول: إنكم تصيرون أحـرارًا؟ قال: الحق أقول لكم: إن كل من يعمل بالخطيئة، فهو عبد للخطيئة، والعبد لا يبقى في البيت أبدًا، أما الابن فيبقى للأبد، ثم قال: لو كنتم أولاد إبراهيم لكنتم تعملون أعمال إبراهيم".

فائدة: تعظيم إبراهيم عليه السلام في القرآن الكريم:

رأينـا فـي الفصـول المتقدمة كيف عظـَّم الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيـد ذكـر إبراهيم عليه السلام، وذلك بعباراتٍ تفيض ببالغ الثناء، وفريد التكريم والتعظيم والتبجيل.

لقد ذكر اسم إبراهيم عليه السلام في القرآن الكريم تسعًا وستين مرة، وذكرت قصته في خمس وعشرين سورة، وفي ثلاث وستين آية كما ارتبطت سيرته بسيرة ابن أخيه لوط عليه السلام وبسيرة ولديه إسماعيل وإسحاق عليهما السلام، بل ارتبطت سيرته بسيرة كل مَن جاء بعده مِن الأنبياء؛ لأنهم جميعًا من نسله وذريته، وكان مسك الختام سيد ولد آدم محمد عليه أفضل الصلاة والسلام.

وحفلت السنة الشريفة بأحاديث نبوية صحيحة كلها تفصل فضائل إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام كأحاديث المعراج، وذكر كونه أول مَن يكسى يوم القيامة، وتنزيهه عن الاستقسام بالأزلام، ووصفه بأنه خير البرية، وارتباط اسمه بكثير من شعائر الإسلام: كالصلاة، وعامة مناسك الحج كالطواف والسعي، وشرب زمزم، ورمي الجمرات، وذبح الهدي.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في سياق كلامه عن موضوعات سورة البقرة: "ثم أخذ سبحانه في بيان شرائع الإسلام التي هي ملة إبراهيم: فذكر إبراهيـم الـذي هـو إمـام، وبناء البيت الـذي بتعظيمه يتميز أهل الإسلام عما سواهم، وذكر استقباله، وقرر ذلك، فإنه شعار الملة بين أهلها وغيرهم؛ ولهذا يقال: أهل القبلة، كما يقال: من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فهو المسلم".

تنزيه إبراهيم عليه السلام من اليهودية والنصرانية:

من خصائص خليل الرحمن أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام أن تعظيمه وحبه واحترامه، والتباهي بالانتساب إليه قاسم مشترك بين المسلمين واليهود والنصارى، بـل حاول كلٌّ مِن اليهود والنصارى ادِّعاء نسبته إلى ديانتهم، حتى فضح الله كذبهم، فقال عز وجل: "يا أهل الكتاب لِمَ تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون"، وقال: "ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلِمَ تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون".

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: "ينكر الله تعالى على اليهود والنصارى في محاجتهم في إبراهيم الخليل، ودعوى كل طائفة منهم أنه كان منهم، كما روى محمد بن إسحاق عن ابن عباس قال: اجتمعت نصاری نجران وأحبار يهود عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنازعوا عنده، فقالـت الأخبار: ما كان إبراهيم إلا يهوديًّا، وقالت النصارى: ما كان إبراهيم إلا نصرانيًّا، فأنزل الله تعالى: "يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم" الآية، أي: كيف تدعون أيها اليهود أنه كان يهوديًّا، وقد كان زمنه قبل أن ينزل الله التوراة على موسى؟ وكيف تدعون أيها النصارى أنه كان نصرانيًّا، وإنما حدثت النصرانية بعد زمنه بدهر؟!  

ولهذا قال: "أفلا تعقلون؟"، ثم قال: "ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلِمَ تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون": هـذا إنكار على مَن يحـاج فيما لا علم له به، فإن اليهود والنصارى تحاجوا في إبراهيم بلا علم، ولو تحاجوا فيما بأيديهم منه علم مما يتعلق بأديانهم التي شرعت لهم إلى حين بعثة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لكان أولى بهم، وإنما تكلموا فيما لم يعلموا، فأنكر الله عليهم ذلك وأمرهم برد ما لا علم لهم به إلى عالم الغيب والشهادة الذي يعلم الأمور على حقائقها وجلياتها، ولهذا قال: "والله يعلم وأنتم لا تعلمون".

ثم قال تعالى: "ما كان إبراهيم يهوديًّا ولا نصرانيًّا ولكن كان حنيفًا مسلمًا" أي: متحنفًا مائلًا عن الشرك قاصدًا إلى الإيمان "وما كان من المشركين"، وهذه الآية كالتي تقدمت في سورة البقرة: "وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبرهيم حنيفا وما كان من المشركين".

ثم قال تعالى: "إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين": يقول تعالى: أحق الناس بمتابعة إبراهيم الخليل الذين اتبعوه على دينه، وهذا النبي يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم، والذين آمنوا من أصحابه المهاجرين والأنصار ومن بعدهم.

روی سعید بن منصور عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن لكل نبي ولاة من النبيين وإن وليي منهم أبي وخليـل ربي عز وجل ثم قرأ: "إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه" الآية. ورواه الترمذي والبزار، ورواه وكيع في تفسيره عن ابن مسعود بنحوه، وقوله: "والله ولي المؤمنين"، أي: ولي جميع المؤمنين برسله، وقال الله عز وجل مخاطبًا أهل الكتاب: "قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ ‌وَنَحْنُ ‌لَهُ ‌مُخْلِصُونَ . أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ . تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ".

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله -: "يقول الله تعالى مرشدا نبيه صلوات الله وسلامه عليه إلى درء مجادلة المشركين: "قل أتحاجوننا في الله؟" أي: أتناظروننا في توحيد الله، والإخلاص له والانقياد، واتباع أوامره، وترك زواجره، "وهو ربنا وربكم": المتصرف فينا وفيكم، المستحق لإخلاص الإلهية له وحده لا شريك له؟! "ولنا أعملنا ولكم أعمالكم" أي: نـحـن بـرآء منكم ومما تعبدون وأنتم برآء منـا، كما قال في الآية الأخرى: "وَإِنْ كَذَّبُوكَ ‌فَقُلْ ‌لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ"، وقال: "فَإِنْ ‌حَاجُّوكَ ‌فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ". 

وقال تعالى في إخباره عن إبراهيم: "‌وَحَاجَّهُ ‌قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ"، وقال في هذه الآية الكريمة: "ونحن له مخلصون" أي: نحن برآء منكم كما أنتم برآء منا، "ونحن له مخلصون"، أي: في العبادة والتوجه.

ثـم أنـكـر تعالى عليهـم فـي دعـواهـم أن إبراهيم، ومـن ذكر من الأنبياء والأسباط كانوا على ملتهـم؛ إما اليهودية وإما النصرانية، فقال: "قل أنتم أعلم أم الله" يعني: بل الله أعلـم، وقد أخبر أنهـم لـم يكونوا هـودًا ولا نصارى، كما قال تعالى: "ما كان إبراهيم يهوديًّا ولا نصرانيًّا ولكن كان حنيفًا مسلمًا وما كان من المشركين" الآية والتي بعدها، قال الحسـن البـصـري: كانوا يقرؤون في كتاب الله الذي أتاهـم: إن الدين الإسلام، وإن محمدًا رسول الله، وإن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانـوا برآء من اليهودية والنصرانية، فشهد الله بذلك، وأقروا به على أنفسهم لله، فكتموا شهادة الله عندهـم من ذلك.

وقوله: "وما الله بغافل عما تعملون": تهديد ووعيد شديد، أي: علمه محيط بعملكم، وسيجزيكم عليه، ثم قال: "تلك أمة قد خلت"، أي: قد مضت، "لها ما كسبت ولكم ما كسبتم": أي: لهـم أعمالهـم ولكم أعمالكم، وليس يغني عنكم انتسابكم إليهم، من غير متابعة منكم لهم، ولا تغتروا بمجرد النسبة إليهـم حتى تكونوا مثلهم منقادين لأوامر الله واتباع رسله الذين بُعِثوا مبشرين ومنذرين، فإنه مَن كفر بنبي واحد فقد كفر بسائر الرسل، ولا سيما مَن كفر بسيد الأنبياء وخاتم المرسلين ورسـول رب العالمين إلى جميع الإنس والجن من المكلفين، صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر أنبياء الله أجمعين".

وللحديث بقية إن شاء الله.