• الرئيسية
  • المقالات
  • الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (65) الدِّين الإبراهيمي الحق يستلزم حجَّ بيت الله الحرام وقصده (4)

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (65) الدِّين الإبراهيمي الحق يستلزم حجَّ بيت الله الحرام وقصده (4)

  • 53

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقال الله تعالى: (قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ . فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) (آل عمران: 95-97).

في الآية فوائد:

الأولى: أوجب اللهُ على جميع الناس اتِّباع ملة إبراهيم صلى الله عليه وسلم القائمة على الحنيفية، وهي: الميل إلى الله والإعراض عن غيره؛ فالتوحيد هو أول واجب على العباد، قال تعالى: (‌وَمَا ‌خَلَقْتُ ‌الْجِنَّ ‌وَالْإِنْسَ ‌إِلَّا ‌لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات: 56)، وقال: (‌وَمَا ‌أَرْسَلْنَا ‌مِنْ ‌قَبْلِكَ ‌مِنْ ‌رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء: 25).

ولا يحصل تحقيق العبادة إلا باتباع الرُّسُل صلوات الله وسلامه عليهم، ولا يحصل الإيمان بأحدهم إلا بالإيمان بجميعهم، وبعد بعثةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم الذي أحيا الله به مِلَّة إبراهيم عليه السلام بعد اندثارها في الأرض قبل بعثته؛ إلا بقايا قليلة جدًّا من أهل الكتاب بقوا على التوحيد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وَإِنَّ اللهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ ‌فَمَقَتَهُمْ ‌عَرَبَهُمْ ‌وَعَجَمَهُمْ إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) (رواه مسلم).

فبعد بعثته صلى الله عليه وسلم انحصر دين الإسلام وملة إبراهيم في الإيمان به صلى الله عليه وسلم واتباعه، واتباع الكتاب الذي أنزله الله معه، قال تعالى: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ . الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ . قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (الأعراف:156-158).

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وَكَانَ النَّبِيُّ ‌يُبْعَثُ ‌إِلَى ‌قَوْمِهِ ‌خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً) (متفق عليه)، وقال صلى الله عليه وسلم: (وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ ‌لَا ‌يَسْمَعُ ‌بِي ‌أَحَدٌ ‌مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ) (رواه مسلم)، وغير ذلك كثير.

وعموم بعثة النبي صلى الله عليه وسلم إلى جميع الخلق من الإنس والجن معلومة بالضرورة؛ فدعوى الزنادقة المرتدين في زماننا بعدم ركنية الإيمان بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم في الإيمان، وأنه يصح الإيمان ويمكن دخول الجنة لمَن كذَّبه، وكذَّب القرآن الذي أُنزِل معه، وأن الجنة ليست حكرًا على أتباعه صلى الله عليه وسلم بعد بعثته، مناقضة لأصل الملة ورِدَّة صريحة عن الإسلام بإجماع العلماء؛ كتم ذلك مَن كتم، وأظهره مَن أظهره، وداهن فيه مَن داهن.

ولا شك أن وجودَ هذه الدعاوى مِن منتسبين إلى الإسلام، بل إلى العِلْم أحيانًا! والتمهيد الذي يريده اليهود وأولياؤهم لما يسمونه: بـ"الدين الإبراهيمي الجديد" الذي يريدون به هدم الإسلام لإفساح المجال لهم، والسيطرة على فلسطين والقدس؛ أرض الميعاد في عقيدتهم الغريبة! وهيهات ... ! لن يكون ذلك بإذن الله، وإنما وعدهم الله الأرض المقدَّسة لما كانوا على التوحيد والإيمان، واتباع الرسل وليس على تكذيبهم؛ ولذلك فهذه الأرض وعدها الله عز وجل أهل الإيمان به مِن أي نَسَبٍ كانوا، وفي أي زمان كانوا، وذلك فهي أرض الإسلام وأهل الإسلام إلى يوم القيامة شرعًا وواقعًا بشرط التزام المسلمين بالإسلام، كما فتحها المسلمون في عهد عمر رضي الله عنه، وظلت في أيديهم إلى أن وقعت في أيدي الصلبيين ثم فتحها صلاح الدين، وظلت في أيدي المسلمين إلى أن احتلها الحلفاء الغربيون بعد هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى وسلموها لليهود، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

وستعود بإذن الله إلى أهل الإسلام قطعًا ويقينًا: (‌وَعَدَ ‌اللَّهُ ‌الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا) (النور: 55)، وقال سبحانه وتعالى: (‌وَلَقَدْ ‌كَتَبْنَا ‌فِي ‌الزَّبُورِ ‌مِنْ ‌بَعْدِ ‌الذِّكْرِ ‌أَنَّ ‌الْأَرْضَ ‌يَرِثُهَا ‌عِبَادِيَ ‌الصَّالِحُونَ . إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ . وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء: 105-107).

الفائدة الثانية: البراءة من الشرك أساس ملة إبراهيم وركنها الركين؛ ولذا تكررت هذه الجملة مع ذكر إبراهيم عِدَّة مرات، وما كان من المشركين، قال سبحانه وتعالى: (‌إِنَّ ‌إِبْرَاهِيمَ ‌كَانَ ‌أُمَّةً ‌قَانِتًا ‌لِلَّهِ ‌حَنِيفًا ‌وَلَمْ ‌يَكُ ‌مِنَ ‌الْمُشْرِكِينَ . شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ . ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل: 120-123)، وقال سبحانه وتعالى: (‌فَلَمَّا ‌أَفَلَتْ ‌قَالَ ‌يَا قَوْمِ ‌إِنِّي ‌بَرِيءٌ ‌مِمَّا ‌تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (الأنعام: 78-79).

وقال تعالى: (‌قَدْ ‌كَانَتْ ‌لَكُمْ ‌أُسْوَةٌ ‌حَسَنَةٌ ‌فِي ‌إِبْرَاهِيمَ ‌وَالَّذِينَ ‌مَعَهُ ‌إِذْ ‌قَالُوا ‌لِقَوْمِهِمْ ‌إِنَّا ‌بُرَآءُ ‌مِنْكُمْ ‌وَمِمَّا ‌تَعْبُدُونَ ‌مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (الممتحنة: 4).

فلا يصح لأحدٍ إيمان إلا بالبراءة من الشرك والمشركين، وهذه البراءة تعني: اعتقاد بطلان عبادة غير الله؛ سواء كان المعبودُ مَلَكًا مُقَرَّبًا، أو نبيًّا مرسلًا، أو وليًّا صالحًا، أو أحبارًا أو رهبانًا، أو إنسًا أو جنًّا، أو حجرًا أو شجرًا، أو قبرًا أو ضريحًا، فصرف العبادة لغير الله شرك بأي نوع مِن أنواع العبادة، ثم يصرِّح الإنسان بلسانه بالبراءة مِن الشرك وبطلان عبادة غير الله، والدعوة إلى ترك عبادة ما يُعبد مِن دون الله، والسعي باليد واللسان والنفس والمال حسب القدرة المشروعة إلى إبطال عبادة كلِّ مَن يعبد مِن دون الله.

وأما مَن صَحَّح عبادة غير الله أو مَدَحَها؛ فقد خَرَج مِن الملة كمَن يَضيق بمَن ينكِر عبادةَ البقر أو بوذا، ويصف عبادة البقر بأنه حضارة ورقي؛ فلا يشك في كفره وزندقته مسلمٌ.

الفائدة الثالثة: شَرَفُ الكعبة بيت الله الحرام؛ لأنها أول بيتٍ وُضِع للناس في الأرض لعبادة الله، وقد كانت عبادة الله في الأرض قبله بلا شك، بل إن توحيدَ الله وعبادته بدأت مع وجود البشرية، وخلق آدم وحواء عليهما السلام في الجنة، وبعد أن نزلا إلى الأرض، لكن لم يكن يُخصص للعبادة والصلاة بيتٌ، وكان الأنبياء والمؤمنون قبل إبراهيم عليه السلام يعبدون الله في بيوتهم، وفي أي مكان في الأرض، فإن ثَبَت ما روي مِن طُرُق ضعيفة -لا تصح إسنادًا-: أن الملائكةَ هي التي بَنَت الكعبة، أو أن آدم عليه السلام هو الذي بناها؛ فهو أدلُّ على شَرَف الكعبة البيت الحرام، ولكن هذا لم يثبُت، والذي ثَبَت هو تحريم البقعة، فتحريم هذه البقعة وتشريع تعظيمها سابق على بناء الكعبة؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (‌إِنَّ ‌اللهَ ‌حَرَّمَ ‌مَكَّةَ ‌يَوْمَ ‌خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) (متفق عليه).

وقال عز وجل عن إبراهيم عليه السلام: (‌رَبَّنَا ‌إِنِّي ‌أَسْكَنْتُ ‌مِنْ ‌ذُرِّيَّتِي ‌بِوَادٍ ‌غَيْرِ ‌ذِي ‌زَرْعٍ ‌عِنْدَ ‌بَيْتِكَ ‌الْمُحَرَّمِ ‌رَبَّنَا ‌لِيُقِيمُوا ‌الصَّلَاةَ ‌فَاجْعَلْ ‌أَفْئِدَةً ‌مِنَ ‌النَّاسِ ‌تَهْوِي ‌إِلَيْهِمْ ‌وَارْزُقْهُمْ ‌مِنَ ‌الثَّمَرَاتِ ‌لَعَلَّهُمْ ‌يَشْكُرُونَ) (إبراهيم: 37).

فقبل أن تكون مكة بلدًا، وقبل أن تُبنَى الكعبة؛ فهذه البقعة تُسمَّى بيت الله المحرَّم، فشرفها سابق، وتحريمها يوم خلق الله السماوات والأرض، وهذا كله شَرَف عظيم لهذه البقعة؛ نحمد الله عز وجل أن جعلها قبلتنا، وجعل حَجَّنا إليها.

وللحديث بقية إن شاء الله.