خطوات نحو رمضان (3)

  • 41

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

الخطوة الثانية: تصحيح المسار:

فإذا خطونا الخطوة الأولى (وقفة مع النفس ومحاسبتها) نقلتنا هذه الخطوة إلى الخطوة التالية، وهي تصحيح المسار، وهي عودة إلى المسار الصحيح إلى طريق ربنا المستقيم، ويبدأ هذا الإصلاح والتصحيح بالتوبة والإنابة إلى الله تعالى: "وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ".

واستمع أيها الحبيب إلى نداء ربك عليك: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ".

ذنوبك لا تثقلك عن التوبة ... فلتحذر أن يُيئسك الشيطان من رحمة ربك وغفرانه لذنبك مهما عظُم، واستمع إلى ربك وهو ينادي عليك، فقد حدثنا النبي صلى الله عليه وسلم عن ربك عز وجل: "يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة".

ربكم واسع المغفرة؛ فلقد بشرنا ربنا بأنه يغفر ذنوبنا مهما عظمت: "قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ"، ولكن ينبغي أيها الحبيب أن نصحح مفهومنا عن التوبة لنتعلم كيف نتوب.

فالتوبة ليست إقلاع عن ذنب ومعصية ثم الندم على فعلها، وتجميع العزم على عدم العود ثانية إلى هذا الذنب فحسب، ولكن هذه هي الخطوة الأولى التي أخطو بها في طريق التوبة.

أيها الحبيب ... لنتعلم كيف نتوب إلى الله تعالى: "وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ . وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ".

فتعلمنا أن التوبة بعدها أقلع العبد عن ذنبه؛ فلا بد من السير في طريق التائبين، وذلك بالإنابة إلى الله، وأن نتبع هذا المنهج الذي جاء به رسولنا صلى الله عليه وسلم.

توبوا قبل ألا تتوبوا:

فلنسارع بأقصى ما نملك قبل أن يحال بيننا وبين التوبة، فعندها سنندم ندمًا شديدًا، ولكن حيث لا يفيد الندم فقد فات الأوان: "أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنْ السَّاخِرِينَ . أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنْ الْمُتَّقِينَ . أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ . بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنْ الْكَافِرِينَ".

وإليك قصة تائب: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسًا، فسأل عن أعلم أهل الأرض فدُل على راهب فأتاه، فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفساً فهل له من توبة؟ فقال: لا، فقتله فكمَّل به مائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدُل على رجل عالم، فقال: إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة؟ قال: نعم، ومَن يحول بينه وبين التوبة؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناسًا يعبدون الله تعالى، فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء، فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائبًا مقبلًا بقلبه إلى الله تعالى، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرًا قط، فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم -أي: حكمًا-، فقال: قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أدنى فهو له؛ فقاسوا فوجدوه إلى الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة".

فهذا التائب الذي صدق في توبته قبضته ملائكة الرحمة، وقالوا: أتى تائبًا مقبلًا بقلبه إلى الله تعالى، إنه لم يعمل خيـرًا قط، ومع ذلك انظر ماذا صنعت التوبة بهذا الرجل الذي أخذ طريق الإصلاح كما أشار إليه هذا العالم بمجانبة أهل المعاصي والابتعاد عنهم ومفارقتهم، ومصاحبة أهل التقوى والصلاح.

فلتبادر بالتوبة قبل أن يغلق الباب دونك ... فربك يقبل توبة العبد ما لم يغرغر، وما لم تصل الروح للحلقوم، وكذلك ما لم تطلع الشمس من مغربها: "هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلْ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ".

الخطوة الثالثة: الاستقامة على الطريق:

إن تاب العبد وسار في طريق التائبين؛ فعليه أن يمضي في الطريق المستقيم بلا انحراف أو التفات فيستقيم على أمر ربه ولا يزيغ "فاستقيموا إليه واستغفروه".

ولقد وجَّه الله تعالى الخطاب إلى رسوله صلى الله عليه وسلم: "فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ"، فربكم يأمر عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم أن يستقيم على أمره، ولا يعوج ولا ينحرف، وهو الذي هداه ربه إلى صراطه المستقيم: "قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ".

وهو صلى الله عليه وسلم الذي لا يُعرف طريق الاستقامة إلا من خلاله: "وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ"، "وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ"، وهو صلى الله عليه وسلم مَن غفر الله له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخر، وهو صلى الله عليه وسلم أول شافع ومشفع، وهو صلى الله عليه وسلم أول مَن تفتح له الجنة، وهو صلى الله عليه وسلم خير خلق الله على الإطلاق، ومع ذلك يخاطبه ربه: "فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ".

النبي صلى الله عليه وسلم وطلبه المستمر للهدى: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يناجي ربه ويقول: "اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختُلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم".

أيها المسلم الحبيب ... الاستقامة هي طريقك إلى الجنة: "إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ . نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ . نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ"، "وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى".

وختامًا: "رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ".

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.