ويزكيهم

  • 73

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

الله تعالى هو العزيز الحكيم؛ أرسل رسله، وأنزل كتبه وشَرَع لعباده عبادات من شأنها أن تكون سببًا لصلاحهم وتزكيتهم، وسعادتهم في الدنيا والآخرة؛ وإلا فهو سبحانه وبحمده الغني الكريم كَمَا قال قتادة: "إنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْ الْعِبَادَ بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ لِحَاجَتِهِ إلَيْهِمْ، وَلَا يَنْهَاهُمْ عَمَّا نَهَاهُمْ عَنْهُ بُخْلًا عَلَيْهِمْ، بَلْ أَمَرَهُمْ بِمَا يَنْفَعُهُمْ وَنَهَاهُمْ عَمَّا يَضُرُّهُمْ. بِخِلَافِ الْمَخْلُوقِ الَّذِي يَأْمُرُ غَيْرَهُ بِمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ، وَيَنْهَاهُ عَمَّا يَنْهَاهُ بُخْلًا عَلَيْهِ" (مجموع الفتاوى لابن تيمية).

ومن هذه العبادات العظيمة الشأن التي هي مِن أعظم أسباب تحصيل التقوى وتربية النفس وإصلاحها: "الصوم"، كما قال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون"، وقال النبي صلى الله عليه وسلم مبينًا هذه الغاية الأسمى في الحديث الذي رواه البخاري رحمه الله في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ وَالْجَهْل فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ".

والمعنى الإجمالي كما قال البيضاوي: "ليس المقصود من شرعية الصوم نفس الجوع والعطش، بل ما يتبعه من كسر الشهوات، وتطويع النفس الأمارة للنفس المطمئنة" (فتح الباري).

والْمُرَاد بِقَوْلِ الزُّورِ: كل قول باطل، فيشمل الكذب والغيبة، والنميمة، وشهادة الزور، وكل قول محرم.

وَالْعَمَلِ بِهِ: أَيْ: بالزور ، وهو العمل بالفواحش والمنكرات. (انظر: تحفة الأحوذي).

والجهل هو العمل بالمعاصي كلها.

قال ابن بطال: "ليس معناه أن يؤمر بأن يدع صيامه، وإنما معناه التحذير من قول الزور وما ذكر معه (فتح الباري).

والمقصود من الحديث: أن يتجنبَ المسلم الذنوب والمعاصي في كل حال؛ خاصة في حال صومه؛ لأنه تؤثر وتنقص من أجر صومه، وربما بثواب الصوم بالكامل، وإن أجزأه عن صيام هذا اليوم فلا يؤمر بالإعادة، ولكنه ولا شك قد فرَّط في هذا الأجر العظيم الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: "عليك بالصوم فإنه لا عدل له"، وفي رواية: "فإنه لا مِثْل له".

فمِن عَلِم ذلك، وحرص وجاهد نفسه على اجتناب الذنوب والمعاصي في حال صومه لمدة شهر كامل بإذن الله؛ فإنه يُرجَى له أن تنصلح نفسه وجوارحه، وتزكو نفسه وتسمو بطاعة ربها، وهذه هي الغاية العظمى من الصوم، وهي تقوي الله تبارك وتعالى.