بُخْل اللسان!

  • 175

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

إن البخيل مَن يضن لسانه               بحديث قلب إن تكلم أسعد

ليس كل البخل بخل بالمال، بل هناك أنواع عديدة من البخل؛ هناك البخل بالمشاعر، والبخل بالعطف، والبخل بالحنان، وهناك بخل العين فلا تنظر بشفقةٍ ولا حب، وهناك بخل اليد فلا تمس برفق، ولا تربت باطمئنان، وهناك بخل الأذن، فلا تسمع البث ولا تلتفت للشكوى.

وهناك بخل اللسان فلا يعبِّر عما يجيش في الصدر مَن معاني الحب والرحمة والاهتمام، ولا يدعم بكلمات التشجيع والتحفيز، "يا معاذ إني أحبك".

بهذه الكلمات بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم نصيحته لمعاذ رضي الله عنه ألا يدع في دبر كل صلاة أن يقول: "اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك"، بل وحثنا صلى الله عليه وسلم إذا أحببنا أحدًا أن نبادر بإخباره أننا نحبه في الله، "إذا أحب الرجل أخاه؛ فليخبره أنه يحبه"، وأن ندعو لمَن يخبرنا بحبه أن يحبه الله كما أحبنا، فقد روى أبو داود في السنن عن أنس بن مَالِكٍ: أَنَّ رَجُلًا كَانَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَرَّ بِهِ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي لَأُحِبُّ هَذَا، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَعْلَمْتَهُ؟"، قَالَ: لَا، قَالَ: "أَعْلِمْهُ"، قَالَ: فَلَحِقَهُ، فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّكَ فِي اللَّهِ، فَقَالَ: أَحَبَّكَ الَّذِي أَحْبَبْتَنِي لَهُ.

فالإخبار بالحب يوطِّده ويرسِّخه، ويجدده وينميه؛ يخرج عليهم صلى الله عليه وسلم فيقول: "لأعطين الراية غدًا رجلًا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله"؛ حبًّا يجعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه يتشوف للإمارة حينها، بل أخبر الله في كتابه في أكثر من موضع أنه "يحب المتقين"، و"يحب المحسنين"، وأن الصفة الأولى لعباده الذين سيأتي بهم حين يستبدل مَن تولى عنه هي: "يحبهم ويحبونه".

فَوَقْع كلماتِ الحب على الآذان عظيم؛ فكلمات الحب تعطي رسالة بالأمان، وتقول لمَن تحب: قيمتك عندي كبيرة، ووجودك في حياتي بالغ الأهمية.

يحتاج مَن يحب أن يسمع كلمات الحب ممَّن يحب؛ صديقًا أو زوجًا، أو أبًا أو أمًا؛ تداعب كلمات الحب الأذن فتسعدها، ثم تنزل على القلب بردًا وسلامًا، والأمان هو دستور العلاقات الوطيدة، كلمات الحب تطفئ نار الشعور بالتخلي أو الرحيل، وتُبعِد شبح كآبة الإهمال.

- وتزداد أهمية الإخبار بالحب بين المتزوجين؛ لخصوصية العلاقة ودوامها وقربها، وقد يتوهَّم البعض: أن الحبَّ بين الزوجين مع طول العشرة يتجاوز تلك الكلمات، ويصبح ليس بحاجة لها، وأن حُسْن العشرة والاهتمام والقيام بشئون الحياة كافٍ! وهذا خطأ كبير؛ فكلمات الحب لدوام الحب كالماء للزرع، يجدده وينميه، وربما إن منعتَ كلمات الحب عن محبوبك؛ جفَّ حبك، وأنت لا تشعر!

- ولكي تدرك أهمية كلمات الحب بين المتزوجين؛ تأمل في أن الشرعَ الحنيف أباح لك أن تكذب، وأنت تقولها وكأنها تحتاج أحيانًا إلى ما هو أزيد مِن التعبير التلقائي عنها حينما تشعر بها، بل تحتاج أحيانًا إلى أن تتكلفها تجاه محبوبك، كما تتكلف ري زرعك بالماء بشكلٍ مطَّرد حتى لا يجف، وهذا كما في حديث أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قالت: "وَلَمْ أَسْمَعْ يُرَخِّصُ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَقُولُ النَّاسُ كَذِبٌ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ: الْحَرْبُ، وَالْإِصْلَاحُ بَيْنَ النَّاسِ، ‌وَحَدِيثُ ‌الرَّجُلِ ‌امْرَأَتَهُ وَحَدِيثُ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا".

- وللكلمة أثر عظيم في حياة الإنسان، فكما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم قد تُدخِل الإنسان الجنة وقد تهوي به في النار سبعين خريفًا؛ فكذلك كلمات الحب والتقدير، والشكر والثناء بين الزوجين كفيلة وحدها أن تزيل وتقضي على كثيرٍ من المشاكل، والشعور بعدم التقدير والإهمال.

ولك أن تخيل وقع كلمات الحب والتقدير على أُذُن الزوجة بعد يوم حافل بالقيام بشئون البيت، وإعداد الطعام والمذاكرة للأولاد، وحل الخلافات بينهم حين يقول لها زوجها فجأة: "عارفة عمال أفكر في إيه الإنجاز الكبير اللي عملته في حياتي، فرأيت الزواج منك من أكبر إنجازاتي - فكرتُ في أصدق مشاعري؛ فوجدته شعوري بحبك - أحب أن أعود للبيت سريعًا؛ لأنك فيه - أنت نقطة النظام في حياتنا".

أو حين تستقبل الزوجة زوجها بعد يوم عمل شاق بكلمات تمسح عنه عناء اليوم: جزاك الله خيرًا على تعبك وسعيك، نحن نجلس مرتاحين في بيتنا وآمنين بفضل الله ثم بفضل سعيك وكدك - حينما تعود للبيت تعود له الحياة!".

لا تنزعج من نظرات الحيرة والشك والريبة التي سيرمقك بها شريك حياتك، ولا تتعجب منه إن نظر خلفه ظانًّا أنك تكلِّم أحدًا غيره؛ فبعد أن تعيدها على مسامعه ستتحول نظرته لدهشةٍ وذهولٍ ثم ستنفرج أساريره عن بسماتٍ، ربما لم ترَ مثل بريقها منذ سنواتٍ؛ صدقني تستحق هذه البسمات أن تبذل لها بعض الجهد؛ لأنها ببساطة سترد عن قريبٍ.

- قد يعاني المتزوجون -مع مرور العمر وكثرة المسئوليات والمشاغل- مِن نسيان كلمات الحب، ثم تصعب وتكون ثقيلة على النفس، وكلما ثقلت كلمات الحب سهلت كلمات التجريح والإهانة؛ فماذا نصنع حين يعقد اللسان دون كلمات الحب؟

وما الحل حينها؟

الحل يسيرٌ جدًّا؛ الحل هو أن تقولها ببساطة بعد أن تتفهم حاجة شريك حياتك لسماعها.

قلها حتى لو لم يتجاوب قلبك؛ فإنه يوشك أن يتجاوب.

قلها وسترى: أن كلماتَ الحبِّ ككرة الثلج؛ ألقها صغيرة ترجع إليك كبيرة، فمَن يسقي زرعه ويتعاهده، يوشك أن يتذوق حلاوة ثماره.

أخـبر حبيـبك بالـوداد إن بَدَى                       وعـاود الأخبار لـطـول المدى

إن الـتـودد بالـكـلام سـبــيـلـك                        نحـو الـفـعـال فلا تكن مترددًا

واسقِ حبيبك مِن أنيق لفـظـك                       واحذر يجف لسـانـك مـتـزهدًا

إن الـكـلام رسـول ما بـقـلـبـك                        فاجعل رسولك للثناء قد ارتدى

واحذر مجانبة الحنين لـلـفظك                       إن الحـنـيـن يعيد حبـًّا ابـتـدى

بعـض الكـلام زينة في نـفسه                        إن مـسَّ وجـنـًا للقلوب توردا

ويحيـل قـفـر القلب بستـانًا لك                       وتداعب الأغصانُ طيرًا منشدًا

كـلـمـاتـك تـفتـح قلوبًا أغـلقـت                       كـلماتـك تـغـلـق طريقـًا للـعـدا

ما دمت تُسمع خِلَك حلو الكلام                      فـهـنأ فحـبـك لم يـزل مـتجـددًا

إن البخـيـلَ مَن يَضـِنَّ لـسـانُـه                       بـحـديث قـلبٍ إن تـكـلم أسعـدا