مرجعية الشريعة والدساتير المصرية القديمة

  • 204

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقد ظهر أول مشروع دستور مصري عام 1879 ميلادية، والذي لم يُصدِّق عليه الخديوي إسماعيل؛ بسبب ملابسات عزله.

وكان هذا المشروع الذي وضعه محمد شريف باشا يتكون من تسعة وأربعين مادة، لا تشمل أبواب الدساتير المتعارف عليها حاليًا في الفقه الدستوري.

وفى عام 1882 ميلادية صدرت "اللائحة الأساسية" في عهد الخديوي توفيق، كأول وثيقة دستورية من ثلاث وخمسين مادة، تحت ضغط الثورة العرابية، لكن ما لبثت أن ألغاها الاحتلال الإنجليزي عام 1883 ميلادية، واستبدل بها "القانون النظامي"، وقد كانت غاية هذه اللائحة تأكيد عدم تبعية مصر للدولة العثمانية.

وكانت أول مادة دستورية تتحدث عن "دين الدولة" هي المادة رقم 149 من دستور 1923 ونصها: "الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية"، بينما كانت المادة رقم 30 من مشروع 1879، والمادة رقم 17 من اللائحة الأساسية 1882 تتحدثان عن اللغة الرسمية التي تستعمل في المجلس، وهي: "اللغة العربية"، وأن تحرير المحاضر والملخصات يكون بتلك اللغة.

وزاد دستور 1971 فقرة ثالثة على هذه المادة، فنصت المادة الثانية منه على أن: "الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع".

وفي تعديلات 22 مايو 1980 أصبح نص المادة: "الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع".

واستمرت هذه المادة بتلك الصياغة في الدساتير والإعلانات الدستورية المتتابعة حتى اليوم.

وقد أكَّدت المحكمة الدستورية العليا على أنه "مِن المقرر -وعلى ما جَرَى به قضاء هذه المحكمة- أن نصوص الدستور لا تتعارض أو تتهادم أو تتنافر فيما بينها، ولكنها تتكامل في إطار الوحدة العضوية التي تنتظمها مِن خلال التوفيق بين مجموع أحكامها، وربطها بالقِيَم العليا التي تؤمن بها الجماعة في مراحل تطورها المختلفة.

ويتعين دومًا أن يُعتد بهذه النصوص بوصفها متآلفة فيما بينها، لا تتماحى أو تتآكل، بل تتجانس معانيها وتتضافر توجهاتها.

ولا محل بالتالي لقالة إلغاء بعضها البعض بقدر تصادمها؛ ذلك أن إنفاذ الوثيقة الدستورية وفرض أحكامها على المخاطبين بها، يفترض العمل بها في مجموعها، باعتبار أن لكلِّ نصٍ منها مضمونًا ذاتيًّا لا ينعزل به عن غيره مِن النصوص أو ينافيها أو يسقطها، بل يقوم جوارها متساندًا معها، مقيدًا بالأغراض النهائية والمقاصد الكلية التي تجمعها" (القضية رقم 15 لسنة 18 ق دستورية - جلسة 2 يناير 1999).

وحيث إن الأصل في النصوص الدستورية أنها تعمل في إطار وحدة عضوية تجعل من أحكامها نسيجًا متآلفًا متماسكًا، بما مؤدَّاه أن يكون لكل نصٍّ منها مضمون محدد يستقل به عن غيره من النصوص استقلالًا لا يعزلها عن بعضها البعض، وإنما يقيم منها في مجموعها ذلك البنيان الذي يعكس ما ارتأته الإرادة الشعبية أقوم لدعم مصالحها في المجالات: السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، ولا يجوز بالتالي أن تفسَّر النصوص الدستورية بما يبتعد بها عن الغاية النهائية المقصودة منها، ولا أن ينظر إليها بوصفها هائمة في الفراغ أو باعتبارها قيما مثالية منفصلة عن محيطها الاجتماعي (القضية رقم 76 لسنة 29 قضائية "دستورية" جلسة الأول من أكتوبر سنة 2007).

وبناءً على ما سبق: فكون المادة بدأت برقم 149 في دستور 1923، ثم أصبحت المادة الثانية في باب الدولة والمقومات الأساسية للمجتمع، إنما يتعلق بتبويب الدستور، وحُسن ترتيبه.

والعلمانيون عندما يتحدثون عن عدم وجود نصوص دستورية تتحدث عن دين الدولة، ومرجعية الشريعة قبل دستور 1923، إنما يقولون حقًّا يريدون به باطلًا؛ إذ يتجاهلون السياقات التاريخية، والتوصيف الدقيق للواقع الذي صدرت فيه هذه الوثائق، والتي لم تكن دساتير بالمعنى الفني المتعارف عليه.

ومع اقتصار مشروع دستور 1879، واللائحة الأساسية لعام 1882 على بعض أبواب الدستور دون بعض؛ فإن بطلان دعواهم يتمثَّل في عِدَّة أمور:

أولًا: الإيمان بأن الشريعة الإسلامية فوق الدستورية، قال تعالى: "فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا"، "وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّـهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا"، "فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ".

وقد عرفت بعض الدساتير ما يُسمَّى بالقواعد فوق الدستورية SUPRA CONSTITUTIONNELLE في إطار محاولة ضمان أكبر قدر ممكن مِن الحماية الدستورية للحقوق الأساسية، والمحافظة على بعض المبادئ السياسية التي ارتضتها الشعوب.

وكيف لا تكون الشريعة الإسلامية فوق الدستورية ودين الدولة هو الإسلام؟!

وقد أشارت المحكمة الدستورية العليا المصرية إلى فكرة القواعد فوق الدستورية الضمنية في الحكم الصادر بتاريخ 17 يونية عام 2000 في القضية رقم 153 لسنة 21 قضائية دستورية، فسجَّلت في حكمها هذا: أن الدستورَ كفل حقوقًا سابقة على وجود الدساتير ذاتها.

ثانيًا: المادة الثانية بصيغتها الحالية لم تكن مُنشئة لحقيقة اجتماعية بقدر ما كانت كاشفة لها؛ فقد كانت الشريعة الإسلامية هي المصدر الوحيد للأحكام لأكثر مِن ألف وثلاثمائة عام، حتى نهاية القرن قبل الماضي، حين استهدف الاحتلال الأجنبي إقصاءها عن حياة المسلمين، وخلال سنوات أنشأ المحاكم المختلطة، ووضع لها بعض القوانين لتُطبقها، والتي استُمِدت بصفة أساسية مِن القانون الفرنسي، وكان ذلك بداية لغزو تشريعي شامل، لا يتصل بانتماء البلاد الإسلامي، ولا بخصائصها الثقافية والاجتماعية التي حددت ذاتيتها وهويتها الإسلامية بشكل واضح.

ثالثًا: إن الشطر الأول مِن المادة الثانية: "الإسلام دين الدولة" نص مضطرد في الدساتير المصرية منذ عام 1923، وهو مُتضمن لذات حكم الشطر الأخير منها: "ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع".

ومِن ثَمَّ؛ فإن إعمال حكم الشطر الأول واجب بشأن كل النصوص المخالفة للشريعة، وهو ما أيَّدته نيابة النقض القسم المدني، في مذكرتها المُقدَّمة في الطعن رقم 433 لسنة 60 ق، واعتبرت كل حكم مُخالف لمُقتضى الشطر الأول مِن المادة الثانية منسوخًا ضمنًا بقوته الدستورية.

وتُعدُ الفقرة الثالثة في غاية الأهمية بعد كثرة التأويلات الباطلة للعلمانيين لتنحية الشريعة الإسلامية، كما فعل الاحتلال مِن قبل.

رابعًا: معرفة النصوص القانونية المعمول بها قَبْل دستور ،1923 ونظام المحاكم مِن المحاكم الشرعية، والمحاكم الحسبية، ومحاكم الأخطاط، إلى المحاكم المختلطة، والمحاكم القنصلية، ومحاكم الطوائف ينقض دعوى العلمانيين مِن أساسها؛ فقد كانت الشريعة الإسلامية مرجعية القوانين، وكانت المحاكم الشرعية هي الهيئة القضائية الأساسية في مصر، وباءت محاولة الاحتلال الفرنسي بتنحيتها بالفشل حتى بداية القرن التاسع عشر الميلادي.

ويشمل اختصاصها: الأحوال الشخصية، والقضايا المدنية والتجارية والجنائية وكذلك الدعاوى العينية والعقارية والوقفية.

ويبلغ عدد المحاكم الشرعية: مائة وسبعة وثلاثون محكمة مقسَّمة على ثلاث درجات: محكمة شرعية عليا، مقرها القاهرة، ولها دائرتا استئناف إحداهما: في الإسكندرية، والأخرى: في أسيوط، وكان يشمل اختصاصها البلاد كلها وأحكامها تصدر من خمسة قضاة.

وأربعة عشر محكمة ابتدائية في كلٍّ مِن: القاهرة، والإسكندرية، وطنطا، والزقازيق، والمنصورة، وبني سويف، وأسيوط، وقنا، وكانت أحكامها تصدر من ثلاثة قضاة.

ومائة وعشرون محكمة شرعية جزئية متعددة تقع في دائرة اختصاص كل محكمة ابتدائية، وأحكامها تصدر مِن قاضٍ واحدٍ.