منهاج المسلم من رمضان إلى رمضان (1)

  • 184

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فمما أكرمَ اللهُ -تعالى- به الأمة الإسلامية أن فَرَض عليها صيامَ نهار رمضان، ونَدَب قيام ليله جماعة، ورتَّب على ذلك الثواب العظيم، والله -تعالى- يصطفي من الأزمنة والأمكنة ما يشاء، ويجعل فيها من الفضل والخير والبركات ما ليس في غيرها.

فصيام شهر رمضان وهو فرض، بل ركن من أركان الإسلام يغفر الله -تعالى- به للعبد ما تقدَّم من ذنبه، وقيام الشهر -وهو ليس بفرض- يغفر الله -تعالى- به للعبد ما تقدَّم من ذنبه، وقيام ليلة القدر -وهو ليس بفرض- يغفر الله -تعالى- به للعبد ما تقدَّم من ذنبه، بل لله -تعالى- في هذا الشهر المبارك من المتقين والمجتهدين في الطاعة والعبادة لله -تعالى- عتقاء من النار، وهذا فضل الله -تعالى- يؤتيه مَن يشاء، ولله الحمد والمنة.

وتنفرد الأمة الإسلامية عن غيرها من الأمم على وجه الأرض بتعظيم شهر رمضان الذي عظَّمه الله -تعالى- وفضله؛ ففيه تفتح أبواب الجنان، وتغلق أبواب النيران، وفيه تُصفَّد مردة الشياطين، وينادي منادٍ مِن قِبَل الله -تعالى-: "يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر"، وفيه ليلة مباركة هي خير من ألف شهر، مَن حُرِم خيرها فقد حُرِم، ليلة (تَنَزَّلُ ‌الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ . سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) (القدر: 4-5)، ليلة مباركة، تكتب فيها مقادير العباد خلال حول كامل، (فِيهَا ‌يُفْرَقُ ‌كُلُّ ‌أَمْرٍ ‌حَكِيمٍ) (الدخان: 4).  

وما إن يهل شهر رمضان؛ إلا وتجد المسلمون في شِتَّى بقاع الأرض يتنافسون في الخيرات، ويتقلبون في الطاعات القولية والفعلية والمالية ليل نهار، من صيام النهار وارتياد المساجد لأداء الصلوات الخمس في جماعة، والاستماع إلى دروس العلم، والإكثار من قراءة القرآن وختمه، إلى قيام أول الليل في جماعة والتهجد في آخره، مع الإكثار من الدعاء، وذكر الله والاستغفار، إلى إطعام الطعام والتصدق بالأموال على الفقراء والمساكين، والإحسان إلى الضعفاء والمحتاجين، مع حسن أخلاق وطيب معاملة وعشرة؛ لذا فكثير من المسلمين -بفضل الله- يَخْرج من هذا الشهر المبارك بالمغفرة والثواب الجزيل.

ونحتاج هنا إلى وقفة نستلهم منها ما ينبغي أن نكون عليه بعد رمضان، وحتى يمن الله -تعالى- ببلوغ رمضان الذي بعده، من خلال دروس وعِبَر مستفادة من رمضان هي زاد للمسلم الذي يحدد له منهاجه في مشوار حياته من رمضان إلى رمضان، حتى يَلْقَى ربه، فيفرح بما قدَّم مِن عمل في رمضان، ويجد ثوابه ما زال باقيًا في صحف أعماله.

لماذا كنا في رمضان أفضل من قبله؟

كنا في رمضان أفضل مما كنا قبله؛ لأننا حقًّا أخذنا الدِّين في رمضان بقوةٍ، ورغبنا فيما عند الله -تعالى- من الثواب الذي وعدنا به، وثواب الله لا ينقطع في رمضان وبعده، فقدَّمنا طلب الآخرة على طلب الدنيا.

وتعدَّدت مظاهر ذلك وتنوَّعت:

- فمِن الازدياد في الطاعات البدنية والقولية والمالية ليل نهار، في نظرة شمولية للدِّين لا تكتفي بجانبٍ منه دون جانب؛ مصداقًا لقوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا ‌الَّذِينَ ‌آمَنُوا ‌ادْخُلُوا ‌فِي ‌السِّلْمِ ‌كَافَّةً) (البقرة: 208)، الذي يحثُّ العبادَ على الأخذ بجميع جوانب الدِّين في كلِّ وقتٍ، وهذا حال الكُمَّل مِن البَشَر، كما وَصَف الله نبيه عيسى -عليه السلام-: (وَجَعَلَنِي ‌مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ) (مريم: 31)، وهذا من أكبر مظاهر الجدية في الالتزام بالدِّين، والأخذ والرضا به كله؛ خلاف مَن يأخذ ببعض جوانبه، ويقصِّر في أخرى.

- ومِن المسارعة إلى العمل بكلِّ هذه الخيرات جميعها دون تأخير أو تسويف؛ فلا تؤخَّر طاعة عن وقتها، ولا يُتهاون في طاعةٍ بسبب ما أو على حساب أخرى، وهذه هي المسابقة المطلوبة في الخيرات، وما زال أقوام يسارعون في الطاعات، ولا يتأخرون فيها حتى نالوا الدرجات العلا، (وَسَارِعُوا ‌إِلَى ‌مَغْفِرَةٍ ‌مِنْ ‌رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (آل عمران: 133)؛ وإلا فما زال أقوام يتأخرون حتى يؤخرهم الله -تعالى-، والجزاء هنا قطعًا من جنس العمل.

- ومِن الثبات على ذلك بيقين لا يتأثر بالشبهات، وإخلاص لا يتأثر بالشهوات، وبزهد لا يلتفت إلى أمور الدنيا، وبورع لا ينغمس في المتشابهات، (فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ ‌اسْتَبْرَأَ ‌لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ) (متفق عليه)، ومَن هذا حاله؛ فلا يجزع للابتلاءات، ولا تفسده الإغراءات.   

- ومِن الصبر على أداء الواجبات المفروضة، وترك المحرمات الممنوعة لمدة شهر كامل متواصل، ورمضان شهر الصبر، والصبر صفة أهل الثبات، قال -تعالى-: (رَبُّ ‌السَّمَاوَاتِ ‌وَالْأَرْضِ ‌وَمَا ‌بَيْنَهُمَا ‌فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) (مريم: 65)، وقال -تعالى-: (وَأْمُرْ ‌أَهْلَكَ ‌بِالصَّلَاةِ ‌وَاصْطَبِرْ ‌عَلَيْهَا ‌لَا ‌نَسْأَلُكَ ‌رِزْقًا ‌نَحْنُ ‌نَرْزُقُكَ ‌وَالْعَاقِبَةُ ‌لِلتَّقْوَى) (طه: 132).

وهذه القوة في التمسُّك بالدين يجب أن تكون منهجًا للمسلم بعد رمضان، كما كانت منهجه في رمضان؛ فقد ثَبَت له في رمضان أن هذا النهج يمكنه السير عليه لأسابيع عديدة، وهذا نهجٌ، أمر الله -تعالى- به رسله وأنبياءه، وأمر به أتباعهم مِن بعدهم، وهو مأمور به في رمضان وبعد رمضان، وإن كان في رمضان بالطبع أوكد، والهمة فيه أشد، وقد قال -تعالى- لنبيه موسى -عليه السلام-: (قَالَ ‌يَا مُوسَى ‌إِنِّي ‌اصْطَفَيْتُكَ ‌عَلَى ‌النَّاسِ ‌بِرِسَالَاتِي ‌وَبِكَلَامِي ‌فَخُذْ ‌مَا ‌آتَيْتُكَ ‌وَكُنْ ‌مِنَ ‌الشَّاكِرِينَ) (الأعراف :144)، وقال -تعالى-: (‌وَكَتَبْنَا ‌لَهُ ‌فِي ‌الْأَلْوَاحِ ‌مِنْ ‌كُلِّ ‌شَيْءٍ ‌مَوْعِظَةً ‌وَتَفْصِيلًا ‌لِكُلِّ ‌شَيْءٍ ‌فَخُذْهَا ‌بِقُوَّةٍ ‌وَأْمُرْ ‌قَوْمَكَ ‌يَأْخُذُوا ‌بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ) (الأعراف: 145).

قال ابن كثير -رحمه الله-: "(‌فَخُذْ ‌مَا ‌آتَيْتُكَ): من الكلام والمناجاة، (‌وَكُنْ ‌مِنَ ‌الشَّاكِرِينَ): على ذلك. (‌فَخُذْهَا ‌بِقُوَّةٍ) أي: بعزم على الطاعة. (سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ) أي: سترون عاقبة مَن خالف أمري، وخرج عن طاعتي، كيف يصير إلى الهلاك والدمار والتباب!"، وقال -تعالى- لبني إسرائيل: (‌خُذُوا ‌مَا ‌آتَيْنَاكُمْ) (البقرة: 63)، قال الحسن: يعني التوراة. (‌بِقُوَّةٍ) أي: بطاعة، قال مجاهد: بقوة: بعمل بما فيه، قتادة: قوة الجد. (‌وَاذْكُرُوا ‌مَا ‌فِيهِ): اقرأوا ما في التوراة، واعملوا به.   

وقال -تعالى- لنبيه يحيى -عليه السلام-: (‌يَا يَحْيَى ‌خُذِ ‌الْكِتَابَ ‌بِقُوَّةٍ ‌وَآتَيْنَاهُ ‌الْحُكْمَ ‌صَبِيًّا) (مريم: 12)، قال ابن كثير: "كان سنه إذ ذاك صغيرًا؛ فلهذا نوَّه بذكره، وبما أنعم عليه وعلى والديه. (‌يَا يَحْيَى ‌خُذِ ‌الْكِتَابَ ‌بِقُوَّةٍ) أي: تعلَّم الكتاب بقوة، أي: بجد وحرص واجتهاد، (‌وَآتَيْنَاهُ ‌الْحُكْمَ ‌صَبِيًّا) أي: الفهم والعلم، والجد والعزم، والإقبال على الخير والإكباب عليه والاجتهاد فيه، وهو صغير حدث السن".

وقال -تعالى- لنبيه صلى الله عليه وسلم وللأمة كلها في شخص النبي -صلى الله عليه وسلم-: (‌فَاسْتَمْسِكْ ‌بِالَّذِي ‌أُوحِيَ ‌إِلَيْكَ ‌إِنَّكَ ‌عَلَى ‌صِرَاطٍ ‌مُسْتَقِيمٍ) (الزخرف: 43)، قال ابن كثير: "أي: خذ بالقرآن المنزَّل على قلبك؛ فإنه الحق، وما يهدي إليه هو الحق المفضي إلى صراط الله المستقيم، الموصل إلى جنات النعيم، والخير الدائم المقيم".

وقال -تعالى-: (‌وَالَّذِينَ ‌يُمَسِّكُونَ ‌بِالْكِتَابِ ‌وَأَقَامُوا ‌الصَّلَاةَ ‌إِنَّا ‌لَا ‌نُضِيعُ ‌أَجْرَ ‌الْمُصْلِحِينَ) (الأعراف: 170)، قال ابن كثير: "أي: اعتصموا به، واقتدوا بأوامره، واتركوا زواجره".   

وإنما يحيد الإنسان عن هذا النهج إن فقد ما كان عليه من القوة في أخذ الدِّين، وإنما سقط مَن سقط ويسقط مَن يسقط مع الشبهات -أو مع أول شبهة تعرض له- أو الشهوات -أو أول شهوة تعرض له-؛ هذا لو صارت نفسه مهيئة للسقوط، والعودة إلى المعاصي والذنوب؛ لوجود رواسب من الجاهلية المخالفة للإسلام مِن حبِّ الدنيا والطمع فيها، وفضول الأكل والشراب، والنوم، والكلام واللغو، والقيل والقال، ثم الوقوع في المعاصي والآثام وانتهاك الحرام، وعدم الصبر على مشقة طريق الالتزام الموصِّل لجنة الرحمن.

وهنا يجب أن تكون الوقفة الجادة مع النفس، وحملها على تحمُّل مرارة الدواء والعلاج من أجل السلامة والشفاء؛ بمخالفة هوى النفس، واليأس من الجمع بين حب الدنيا والعمل للآخرة.

لقد فقدنا برحيل رمضان مظاهر الجماعية التي كنا عليها في طاعات وعبادات رمضان، وعدنا إلى العمل بالطاعات في فردية ما قبل رمضان، فردية مبناها ومدارها على الإخلاص والمداومة على العبادات والطاعات وإن قلَّت، فالصيام بعد رمضان ما زال مطلوبًا، ولكنه لم يصبح واجبًا، بل تطوعًا، ما تيسر منه لا سردًا، والمساجد ما زالت مفتوحة ليل نهار لم تغلق، والقرآن ما زال موجودًا في الأمة لتلاوته والعمل بمقتضاه، ولم يرفع، وقيام الليل والتهجد ما زال مرغوبًا فيه، ولكنه أصبح فرديًّا لا في جماعة.

والتزامنا الجاد المثمر في رمضان ما زال ممكنًا إن قدَّمنا طلب الآخرة على طلب الدنيا، ولم ننشغل بتعمير الدنيا عن تعمير الآخرة، والخاسرون مَن يطلبون مِن الدنيا ما يطغيهم، ولا يكتفون من الدنيا بما يكفيهم، وأسوأ الناس مَن طلب الدنيا بضياع الدِّين.

والمسلم أحوج ما يكون في أوقات الفتن إلى الثَّبَات على هذا المنهج، والقُرب من الله -تعالى-؛ فلا ينشغل بالمعاصي والذنوب، ويقع أسير الغفلة والشرود، فيعرض عليه الحق فلا ينتبه له، ويبيِّن له الصواب فيفرِّط فيه، فتجرفه الفتن والضلالات معها فيهلك، وقال -تعالى- في شأن أقوام عُرِض عليهم الحق وهم في غفلتهم فلم يقبلوه: (‌وَنُقَلِّبُ ‌أَفْئِدَتَهُمْ ‌وَأَبْصَارَهُمْ ‌كَمَا ‌لَمْ ‌يُؤْمِنُوا ‌بِهِ ‌أَوَّلَ ‌مَرَّةٍ ‌وَنَذَرُهُمْ ‌فِي ‌طُغْيَانِهِمْ ‌يَعْمَهُونَ) (الأنعام: 110)، وقال -تعالى-: (‌يَا أَيُّهَا ‌الَّذِينَ ‌آمَنُوا ‌إِنْ ‌تَتَّقُوا ‌اللَّهَ ‌يَجْعَلْ ‌لَكُمْ ‌فُرْقَانًا ‌وَيُكَفِّرْ ‌عَنْكُمْ ‌سَيِّئَاتِكُمْ ‌وَيَغْفِرْ ‌لَكُمْ ‌وَاللَّهُ ‌ذُو ‌الْفَضْلِ ‌الْعَظِيمِ ) (الأنفال: 29)، ففي وقت الفتن يجب أن تنبض القلوب بالإيمان، وتستيقظ النفوس، وتنتبه العقول ليكون المرء دائمًا على استعداد لقبول الحق متى عُرِض عليه؛ فقد لا يُعْرَض عليه هذا الحق إلا مرة واحدة لا تتكرر، ويفرِّط هو فيها، ولا يكون كمال ذلك إلا بإخلاص القلب وإصلاحه، واجتهاد الجوارح في الطاعة، وطلب الحق بالرجوع إلى علماء الأمة المعتبرين الراسخين.   

والمسلم التقي مسلمٌ استفاد بعد رمضان من دروس رمضان وعِبَرِه، فبقيتْ معه بعد رمضان يعمل بمقتضاها ويهتدي بهديها، ومنها:

اغتنام الأوقات:

فلقد تعلَّمنا في رمضان اغتنام الأوقات الفاضلة، والصحة والعافية في الطاعات المقرِّبة من الله -تعالى-، والأوقات الفاضلة ليست قاصرة على رمضان، فهناك بعد رمضان أيام كثيرة و مواسم ومناسبات لها فضلها الكبير في الشرع، بل في كل يوم من الأيام ساعات فاضلة يضاعف فيها الثواب: من وقت الشروق إلى الضحى، ومن بعد العصر إلى المغرب، وفي الثلث الأخير من الليل، إلى جانب ارتياد المساجد للجمع والجماعات، وصيام الست من شوال، وصوم الأيام البيض من كل شهر، والاثنين والخميس من كل أسبوع، وختم القرآن الكريم مرارًا من خلال ورد يومي ثابت لا ينقطع، وأذكار الصباح والمساء كل يوم، وغير ذلك.

واستثمار مثل هذه الأوقات هو امتداد طبيعي لما كان من استثمار في رمضان، وهي من باب استثمار الحياة قبل الموت، واستثمار الصحة قبل المرض، واستثمار الغنى قبل الفقر، واستثمار وقت الفراغ قبل الانشغال؛ خاصة أن العمر يمضي سريعًا، فها هو شهر رمضان مَرَّ كما قال -تعالى- عنه: (‌أَيَّامًا ‌مَعْدُودَاتٍ) (البقرة: 184)، وهكذا العمر كله كما قال عنه الله -تعالى- أشبه بساعة، قال -تعالى-: (‌وَيَوْمَ ‌يَحْشُرُهُمْ ‌كَأَنْ ‌لَمْ ‌يَلْبَثُوا ‌إِلَّا ‌سَاعَةً ‌مِنَ ‌النَّهَارِ ‌يَتَعَارَفُونَ ‌بَيْنَهُمْ) (يونس: 45)؛ فلنجعل هذه الساعة في الطاعة طلبًا لما هو خير منها، وقال -تعالى-: (‌قَالَ ‌كَمْ ‌لَبِثْتُمْ ‌فِي ‌الْأَرْضِ ‌عَدَدَ ‌سِنِينَ . قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ . قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (المؤمنون: 112-114).

الخوف من عدم القبول:

كان العبد في رمضان إذا انتهى يوم صومه يتمنَّى من الله -تعالى- أن ينال ثواب صوم هذا اليوم معلقًا قبول صومه على مشيئة الله -تعالى-، فيقول: (‌ذَهَبَ ‌الظَّمَأُ وَابْتَلَّتِ الْعُرُوقُ وَثَبَتَ الْأَجْرُ إِنْ شَاءَ الله) (رواه أبو داود، وحسنه الألباني)؛ فكذلك عليه أن يدعو ربه بعد رمضان شهرًا بعد شهر، ويلح في الدعاء أن يقبل الله -تعالى- ما قدَّمه في رمضان الفائت، وذلك حتى يبلغ رمضان الذي بعده، وعلى هذا كان حال السلف، يدعون ربهم ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، فإذا مرَّ دعوا الله بعده ستة أشهر أن يقبل منهم ما قدموه في رمضان، قال -تعالى- في أهل الإيمان: (‌إِنَّ ‌الَّذِينَ ‌هُمْ ‌مِنْ ‌خَشْيَةِ ‌رَبِّهِمْ ‌مُشْفِقُونَ . وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ . وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ . وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ . أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) (المؤمنون: 57-61).  

قال ابن كثير -رحمه الله-: "(وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ): أي: يعطون العطاء وهم خائفون وجلون ألا يتقبل منهم؛ لخوفهم أن يكونوا قد قصَّروا في القيام بشروط العطاء، وهذا من باب الإشفاق والاحتياط"، وعن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: يا رسول الله، (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ)؛ هو الذي يسرق ويزني، ويشرب الخمر، وهو يخاف الله عز وجل؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يا ابنة الصديق، ولكنه الذي يصلي ويصوم، ويتصدق، وهو يخاف الله -عز وجل-، وعند الترمذي وابن أبي حاتم: لا يا ابنة الصديق، ولكنهم الذين يصلون ويصومون ويتصدقون، وهم يخافون ألا يتقبل منهم، أولئك يسارعون في الخيرات".

وهذا نبي الله إبراهيم يستجيب لأمر الله -تعالى- له ببناء البيت الحرام، ومع قدره وقدر ما كُلِّف به أخذ يدعو طالبًا من الله -تعالى- قبول العمل، قال -تعالى-: (‌وَإِذْ ‌يَرْفَعُ ‌إِبْرَاهِيمُ ‌الْقَوَاعِدَ ‌مِنَ ‌الْبَيْتِ ‌وَإِسْمَاعِيلُ ‌رَبَّنَا ‌تَقَبَّلْ ‌مِنَّا ‌إِنَّكَ ‌أَنْتَ ‌السَّمِيعُ ‌الْعَلِيمُ) (البقرة: 127).

الحذر من العُجْب:

فإذا كان العبد لا يدري: أقبل منه العمل أم لا؛ فعليه بالتالي أن لا يأخذه العجب بما قدَّم في رمضان، كما أنه ليس للعبد مطلقًا أن يمن على ربه، قال -تعالى- في أقوام: (‌يَمُنُّونَ ‌عَلَيْكَ ‌أَنْ ‌أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (الحجرات: 17)، وإذا كان المنُّ على العبد -وهو عبد مثلك- بالصدقة يبطلها؛ فكيف بالمن على الله عز وجل وهو ربك؟! قال -تعالى-: (‌يَا أَيُّهَا ‌الَّذِينَ ‌آمَنُوا ‌لَا ‌تُبْطِلُوا ‌صَدَقَاتِكُمْ ‌بِالْمَنِّ ‌وَالْأَذَى ‌كَالَّذِي ‌يُنْفِقُ ‌مَالَهُ ‌رِئَاءَ ‌النَّاسِ) (البقرة: 264)، وكيف يمن العبد على ربه، وهو الذي بلَّغه رمضان ووفَّقه للصيام والقيام والعمل الصالح فيه، فلله -تعالى- عليه الحمد والمنة؛ فليحذر العبد كل الحذر من العجب بما وفقه الله إليه في رمضان.

الإكثار من شكر الله -تعالى-:

وذلك بالإكثار من الحمد والشكر والتكبير، وهذا مطلوب في كل عمل وطاعة ونعمة، قال -تعالى- لنبيه صلى الله عليه وسلم: (‌إِذَا ‌جَاءَ ‌نَصْرُ ‌اللَّهِ ‌وَالْفَتْحُ . وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا . فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) (النصر: 1-3)، والمسلم إذا صلَّى كان من أذكاره بعد الصلاة الاستغفار ثلاثًا، وفي حق انتهاء صوم رمضان خاصة، قال -تعالى-: (‌وَلِتُكْمِلُوا ‌الْعِدَّةَ ‌وَلِتُكَبِّرُوا ‌اللَّهَ ‌عَلَى ‌مَا ‌هَدَاكُمْ ‌وَلَعَلَّكُمْ ‌تَشْكُرُونَ) (البقرة: 185)، قال ابن كثير -رحمه الله-: "(‌وَلَعَلَّكُمْ ‌تَشْكُرُونَ): أي: إذا قمتم بما أمركم به الله من طاعته بأداء فرائضه وترك محارمه، وحفظ حدوده؛ فلعلكم أن تكونوا من الشاكرين بذلك".

وللحديث بقية -إن شاء الله-.