منهاج المسلم من رمضان إلى رمضان (2)

  • 79

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقد أخبر الله -تعالى- أن الغرضَ من صيام شهر رمضان، والقيام فيه، وعمل الصالحات بأنواعها هو تحقيق التقوى، قال -تعالى-: (‌يَا أَيُّهَا ‌الَّذِينَ ‌آمَنُوا ‌كُتِبَ ‌عَلَيْكُمُ ‌الصِّيَامُ ‌كَمَا ‌كُتِبَ ‌عَلَى ‌الَّذِينَ ‌مِنْ ‌قَبْلِكُمْ ‌لَعَلَّكُمْ ‌تَتَّقُونَ) (البقرة: 183)، وقد رتَّب الله -تعالى- على ذلك الثواب والأجر الجزيل.

ولا شك أن كثيرًا مِن المسلمين قد حصلوا في رمضان على كمٍّ كبيرٍ من الحسنات، وقَدْر وفير من الأجور باجتهادهم في الطاعات، ومنهم مَن خَرَج مغفورًا له ما تقدَّم من ذنبه؛ فمحيت عنهم سيئاتهم، وبقي لهم ما قدَّموا من الحسنات، وهذا فضل من الله -تعالى- كبير يؤتيه مَن يشاء، ولكن هؤلاء الذين أحسنوا في رمضان يتفاوتون بعده؛ فمنهم مَن يحافظ على ما حصَّل مِن التقوى والثواب، ومنهم مَن يفرِّط فيه، والمسلم الحق مَن حَافَظ على ما حقق في رمضان مِن التقوى والثواب، والمسلم المسيء مَن فرَّط في ذلك.

وينبغي على المسلم التقي حقًّا في رمضان أن يواصل تقواه وصلاحه بعد رمضان، فيتبنى منهجًا يقوم على الصبر على أداء الواجبات المفروضة، وترك المنهيات الممنوعة، والاجتهاد في النوافل والمندوبات، فيبقى على ذلك ما استطاع حتى يبلغ رمضان القادم، وهو ليس بعيدًا عما كان عليه في رمضان السابق، وإن تفاوتت الهمة خلال ما بين الرمضانين؛ إذ لرمضان همة ليست في غيره.

ولو كان المسلم على أشد ما يكون عليه في رمضان طوال العام كله؛ لربما صافحته الملائكة، وسلَّمت عليه في الطرقات، ولكن ساعة وساعة، دون تفريط في واجبات، أو انتهاك لحرمات، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لحنظلة بن الربيع الأُسَيِّدي -رضي الله عنه-، وهو أحد كُتَّاب النبي -صلى الله عيه وسلم-: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي، وَفِي الذِّكْرِ ‌لَصَافَحَتْكُمُ ‌الْمَلَائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ، وَفِي طُرُقِكُمْ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً) ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. (رواه مسلم)، والله -تعالى- يقول: (‌مَنْ ‌كَانَ ‌يَرْجُو ‌لِقَاءَ ‌اللَّهِ ‌فَإِنَّ ‌أَجَلَ ‌اللَّهِ ‌لَآتٍ ‌وَهُوَ ‌السَّمِيعُ ‌الْعَلِيمُ . وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ . وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ) (العنكبوت: 5-7)، وقال -تعالى-: (‌إِنَّ ‌الَّذِينَ ‌قَالُوا ‌رَبُّنَا ‌اللَّهُ ‌ثُمَّ ‌اسْتَقَامُوا ‌تَتَنَزَّلُ ‌عَلَيْهِمُ ‌الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ . نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ . نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) (فصلت: 30-32)، وقال -تعالى-: (‌إِنَّ ‌الَّذِينَ ‌قَالُوا ‌رَبُّنَا ‌اللَّهُ ‌ثُمَّ ‌اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ . أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الأحقاف: 13-14).

قال الشيخ ابن العثيمين -رحمه الله-: "وفي هذا دليل على أهمية الاستقامة على دين الله بأن يكون الإنسان ثابتًا، لا يزيد ولا ينقص، ولا يبدِّل ولا يغيِّر".

وهذا المنهاج الذي يجب أن يكون عليه المسلم الحق بين الرمضانين يدخل في عموم الكثير مِن الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية التي حَثَّت على المواظبة الدائمة طوال سنين العمر، على العمل الصالح وإن قَلَّ؛ فالمداومة على العمل الصالح هي مفتاح الجنة؛ لذا لا يكاد أن تأتي آية في القرآن الكريم فيها ذكر الإيمان إلا ذُكِر مع الإيمان العمل الصالح؛ قال الله -تعالى-: (‌وَاعْبُدْ ‌رَبَّكَ ‌حَتَّى ‌يَأْتِيَكَ ‌الْيَقِينُ) (الحجر: 99)، واليقين: الموت، وفي ذلك قال -صلى الله عليه وسلم-: (‌يُبْعَثُ ‌كُلُّ ‌عَبْدٍ ‌عَلَى ‌مَا ‌مَاتَ ‌عَلَيْهِ) (رواه مسلم)، فالأعمال بالخواتيم، والله -تعالى- يقول: (‌أَلَمْ ‌يَأْنِ ‌لِلَّذِينَ ‌آمَنُوا ‌أَنْ ‌تَخْشَعَ ‌قُلُوبُهُمْ ‌لِذِكْرِ ‌اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ) (الحديد: 16)، وجاء في حديث عائشة -رضي الله عنها-: "‌وَكَانَ ‌أَحَبَّ ‌الدِّينِ ‌إِلَيْهِ -صلى الله عليه وسلم- مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ" (متفق عليه)، وقد قال -صلى الله عليه وسلم- لعبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-: (يَا عَبْدَ اللهِ، لَا تَكُونَنَّ مِثْلَ فُلَانٍ، ‌كَانَ ‌يَقُومُ ‌اللَّيْلَ، ‌فَتَرَكَ ‌قِيَامَ ‌اللَّيْلِ) (متفق عليه).

ويعين المسلم على التمسُّك بهذا المنهاج ما لاقاه مِن لِذَّة الطاعة في رمضان، وما استقر في نفسه فيه من إمكانية التقلب في الطاعات ليل نهار، مع قضاء أمور الدنيا ومصالحها، كما جمع بينهما في رمضان، ويحفِّزه على المداومة على الحفاظ على ما اكتسبه مِن: ثواب صيام رمضان، وقيامه، والعمل الصالح فيه، وعدم التفريط فيه استحضار ما ينتظره من الفرح بلقاء الله -تعالى-، وقد احتفظ في صحيفة حسناته بثواب صيامه أو أكثره، قال -صلى الله عليه وسلم- في الحديث المتفق عليه: (لِلصَّائِمِ ‌فَرْحَتَانِ ‌يَفْرَحُهُمَا) يعني بانتهاء يوم الصيام (‌إِذَا ‌أَفْطَرَ فَرِحَ بِفِطْرِهِ) لما جُبِل عليه الإنسان من الفرح بالأكل والشرب عند الجوع والظمأ (وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ) عندما يرى ثواب صومه عند لقاء ربه يوم القيامة، وهذه هي الفرحة الحقيقة التي ينبغي للمسلم أن يعيش لها وبها.

وقد وَرَد ذِكْر الفرح في آيات القرآن الكريم على ضربين:

الفرح المطلق: وهو الفرح الذي ينسي صاحبه فضل الله -تعالى- عليه، وقد ورد في القرآن في محل الذم، كما في قوله -تعالى- في قصة قارون: (‌إِذْ ‌قَالَ ‌لَهُ ‌قَوْمُهُ ‌لَا ‌تَفْرَحْ ‌إِنَّ ‌اللَّهَ ‌لَا ‌يُحِبُّ ‌الْفَرِحِينَ) (القصص: 76)، وكما في قوله -تعالى-: (‌إِنَّهُ ‌لَفَرِحٌ ‌فَخُورٌ) (هود: 10).

الفرح المقيد المذموم: وهو كسابقه مقرون بنسيان فضل الله -تعالى- على العبد، كما في قوله -تعالى-: (حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً ‌فَإِذَا ‌هُمْ ‌مُبْلِسُونَ) (الأنعام: 44)

الفرح المقيد الممدوح: وهو الفرح المقيد بفضل الله -تعالى- على العبد ورحمته به، كما في قوله -تعالى-: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ ‌خَيْرٌ ‌مِمَّا ‌يَجْمَعُونَ) (يونس: 58)، وقوله -تعالى-: (‌فَرِحِينَ ‌بِمَا ‌آتَاهُمُ ‌اللَّهُ ‌مِنْ ‌فَضْلِهِ) (آل عمران: 170)، وقوله -تعالى-: (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ . ‌بِنَصْرِ ‌اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (الروم: 4-5)؛ فهي فرحة مأذون فيها مرخَّص بها. 

ولا شك أن الفرحَ بالصيام فرح مشروع ممدوح، فهو برحمة من الله -تعالى- وفضله، وفرحة المؤمن بالطاعات في الدنيا أكبر من فرحته بغيرها، بل أكبر من فرحة غيره بما يفرح به مِن سلطان أو جاه أو مال، وأعظم درجات الفرحة: فرحة المؤمن بلقاء ربه -عز وجل- يوم القيامة، وهو عنه راضٍ؛ قال -تعالى-: (‌وَلَا ‌تَحْسَبَنَّ ‌الَّذِينَ ‌قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ . فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (آل عمران: 169-170).

حال المسلم المسيء بعد رمضان:

أما مَن أحسن في رمضان وحصل فيه من الأجر والثواب ثم نكص على عقبيه بعد رمضان بتفريط في واجبات، أو اجتراء على محرمات؛ فهو يضيع على نفسه ما حصَّله من الأجر والثواب، فالسيئات بعد الحسنات تأكل الحسنات، كما تأكل الحسنات السيئات، ومَن كان هذا حاله فيلقَى الله -تعالى- يوم القيامة فلا يجد ثواب صيامه وقيامه الذي حصله في رمضان أحوج ما يكون محتاجًا إليه؛ فما أشد حسرته يومها!

وقد ضَرَب الله -تعالى- في القرآن الكريم مثلًا بليغًا لمَن كان هذا حاله: فمثله كمثل رجل أصابه الكبر، وله جنة من أشجار النخيل والأعناب المثمرة يأكل منها، هو والضعفاء من ذريته، بلا جهد أو مشقة، ثم أصاب هذه الجنة إعصارٌ فيه نار فأحرقها بما فيها من نخيل وأعناب، فحُرِم هذا العجوز وذريته الضعيفة من خير هذه الجنة أحوج ما يكون إليها؛ إذ لا قدرة له لكبره على زراعتها من جديد لكبر سنه، ولضعف ذريته، فلا مجال للعمل وتعويض ما ذهب؛ فما أشد حسرته!

وكذلك مَن كان معه مِن رمضان ثواب عظيم ينتظر أن يسعد به عند لقاء ربه يوم القيامة، ولكنه فرَّط فيه بالذنوب فأضاعه؛ فلا يجده في صحيفة حسناته أحوج ما يكون له عند لقاء ربه عز وجل، ولا مجال عندئذٍ للعمل الصالح لاستدراك ما فات، قال -تعالى-: (‌أَيَوَدُّ ‌أَحَدُكُمْ ‌أَنْ ‌تَكُونَ ‌لَهُ ‌جَنَّةٌ ‌مِنْ ‌نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) (البقرة: 266).

قال الزجاج: الإعصار في اللغة: الريح الشديدة التي تهب من الأرض إلى السماء كالعمود.

وقال السدي: الإعصار الريح والنار السموم.

وقال ابن عباس: ريح فيها سموم شديدة. وقيل لها: إعصار؛ لأنها تلتف كالثوب إذا عصر؛ فإنه يصعد عمودًا ملتفًا. وذكر البخاري في تفسيره عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية: ضُرِبت مثلًا لعمل، وبيَّنه فقال: لعمل رجل غني يعمل بطاعة الله، ثم بعث الله عز وجل له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أحرق عمله. وفي رواية: فإذا فني عمره واقترب أجله ختم ذلك بعمل من أعمال الشقاء. وروى ابن أبي مليكة أن عمر -رضي الله عنه- تلا هذه الآية، وقال: هذا مثل ضرب للإنسان يعمل عملًا صالحًا حتى إذا كان عند آخر عمره أحوج ما يكون إليه عَمِل عمل السوء.

قال ابن عطية في تفسيره: "فهذا نظر يحمل الآية على كل ما يدخل تحت ألفاظها، وبنحو ذلك قال مجاهد وقتادة، والربيع، وغيرهم".

وذكر القرآن الكريم مثلًا آخر في ذم إضاعة العمل هباءً، ونقض الإنسان لما قام به من خير، وذلك في قوله -تعالى-: (‌وَلَا ‌تَكُونُوا ‌كَالَّتِي ‌نَقَضَتْ ‌غَزْلَهَا ‌مِنْ ‌بَعْدِ ‌قُوَّةٍ ‌أَنْكَاثًا) (النحل: 92)، ففيه كما روي في سبب النزول أن هذا مثلًا ذكرته الآية لامرأة خرقاء كانت بمكة تغزل غزلها، فإذا أتمته وأحكمته؛ نقضته!  

ويشهد لذلك حديث المفلس الذي رواه أبو هريرة -رضي الله عنه-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (أَتَدْرُونَ مَا ‌الْمُفْلِسُ؟) قَالُوا: ‌الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ، وَلَا مَتَاعَ فَقَالَ: (إِنَّ ‌الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ) (رواه مسلم).

ولقد كان من هديه -صلى الله عليه وسلم- الإكثار من قوله: (يَا ‌مُقَلِّبَ ‌القُلُوبِ ‌ثَبِّتْ ‌قَلْبِي ‌عَلَى ‌دِينِكَ)، ولما سألته أم سلمة -رضي الله عنها- عن سبب ذلك، قال صلى الله عليه وسلم: (يَا أُمَّ سَلَمَةَ إِنَّهُ لَيْسَ آدَمِيٌّ إِلَّا وَقَلْبُهُ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ، فَمَنْ شَاءَ أَقَامَ، وَمَنْ شَاءَ أَزَاغَ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)، وجاء في دعاء الراسخين في العِلْم: (‌رَبَّنَا ‌لَا ‌تُزِغْ ‌قُلُوبَنَا ‌بَعْدَ ‌إِذْ ‌هَدَيْتَنَا ‌وَهَبْ ‌لَنَا ‌مِنْ ‌لَدُنْكَ ‌رَحْمَةً ‌إِنَّكَ ‌أَنْتَ ‌الْوَهَّابُ) (آل عمران: 8). والزيغ: الميل، ومنه: زاغت الشمس وزاغت الأبصار. وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يستعيذ مِن الحور بعد الكور.

حال مَن أحسن بعد الإساءة:

وهذا حال قليل مِن الناس، ولكنه موجود؛ لذا فينبغي على المسلم ألا يقنط من رحمة الله -تعالى- أبدًا؛ فهذا حال مَن أدرك رمضان، لكنه أساء فيه، فلم يخرج منه بالأجر والثواب، بترك واجبات وانتهاك محرمات في هذا الشهر الفضيل، فخرج منه بالخيبة والخسران، ثم يتغمده الله -تعالى- برحمته بعد ذلك، ويثوب إلى رشده، ويستشعر خطر ما قدَّم، وجسامة ما اقترف؛ فتجده يتوب توبة نصوحًا، ويستغفر الله وينيب، ويعود إلى صراط الله المستقيم؛ فتراه يقلع عن فساده، ويقضي ما فاته، ويسارع إلى الخيرات.

والتائبون في هذه الأمة بفضل الله -تعالى- كثير، والتائب مِن الذنب كمَن لا ذنب له، ونفحات مواسم الطاعات والعبادات على مدار العام كثيرة؛ يدرك مَن حرص عليها فيها إن شاء ما سبقه فيه غيره؛ قال -تعالى-: (‌وَمَنْ ‌يَعْمَلْ ‌سُوءًا ‌أَوْ ‌يَظْلِمْ ‌نَفْسَهُ ‌ثُمَّ ‌يَسْتَغْفِرِ ‌اللَّهَ ‌يَجِدِ ‌اللَّهَ ‌غَفُورًا ‌رَحِيمًا) (النساء: 110)، ويقول -تعالى-: (‌وَالَّذِينَ ‌إِذَا ‌فَعَلُوا ‌فَاحِشَةً ‌أَوْ ‌ظَلَمُوا ‌أَنْفُسَهُمْ ‌ذَكَرُوا ‌اللَّهَ ‌فَاسْتَغْفَرُوا ‌لِذُنُوبِهِمْ ‌وَمَنْ ‌يَغْفِرُ ‌الذُّنُوبَ ‌إِلَّا ‌اللَّهُ ‌وَلَمْ ‌يُصِرُّوا ‌عَلَى ‌مَا ‌فَعَلُوا ‌وَهُمْ ‌يَعْلَمُونَ) (آل عمران: 135)، وفي حديث أنس -رضي الله عنه- المرفوع: (قَالَ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ ‌عَنَانَ ‌السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ، وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

وقد قَتَل رجلٌ مائة نفس ثم تاب توبة صادقة، فدخل بفضل الله -تعالى- ورحمته الجنة، وقال إبراهيم -عليه السلام- لضيفه من الملائكة المكرمين: (‌وَمَنْ ‌يَقْنَطُ ‌مِنْ ‌رَحْمَةِ ‌رَبِّهِ ‌إِلَّا ‌الضَّالُّونَ) (الحجر: 56)، وقال يعقوب -عليه السلام- لبنيه: (‌وَلَا ‌تَيْأَسُوا ‌مِنْ ‌رَوْحِ ‌اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) (يوسف: 87)، وقال -تعالى-: (‌قُلْ ‌يَا عِبَادِيَ ‌الَّذِينَ ‌أَسْرَفُوا ‌عَلَى ‌أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (الزمر: 53)، وإنما الأعمال بالخواتيم.

ويبقى بعد ذلك مِن الناس مَن كان حاله الإساءة في رمضان وبعده؛ فلا يعرف معروفًا، ولا ينكر منكرًا، إلا ما أشرب من هواه؛ فقد ظلم نفسه أشد الظلم، وحَرَم نفسه مِن التَّعَرُّض لرحمة الله -تعالى- وفضله ومغفرته.

نسأل الله -تعالى- العافية، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.