غريزة التَّدَيُّن وحاجة الناس إلى الدِّين

  • 102

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: "فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ ‌الَّتِي ‌فَطَرَ ‌النَّاسَ ‌عَلَيْهَا"، ومما لا شكَّ فيه: أنَّ التديُّنَ جزءٌ من الطبيعة البشريَّة؛ حيث إنَّ الإنسان لا يستطيع أن يعيش بغير دينٍ، حقًا كان أم باطلًا.

فكما أن الإنسان بطبيعته يحتاج إلى ما يحفظ ذاته -مِن غذاء وكساءِ-، وما يحفظ نوعَه -من زواج وتناسل-؛ فهو أيضًا لا يَستطيع أن يعيش بغير دينٍ، وأن يحيا بدون "إله" يعظِّمه ويقدِّسه، ويلجأ إليه، فالدِّين ضروريٌّ للإنسان، راسِخ فيه كالغريزة، فغريزة التدَيُّن لا استغناء له عنها.

والباحثون في تاريخ الأمَم والأديان والحضارات، أجمَعوا على أنَّ الإنسان مِن أقدَم العصور "يتديَّن ويتعبَّد ويؤمن بإله"، حتى قال المؤرخ الإغريقي بلوتارك: "لقد وُجدَت في التاريخ مدنٌ بلا قصور، ولا مصانع ولا حصون، ولكن لم توجَد في التاريخ مدنٌ بلا معابد".

فالخلق محتاجون إلى (الإله) ليحصل لهم الربط بين الروح والجسد، وبين المادة والقلب والعقل.

وإذا لاحظنا التطورات التاريخية المختلفة لحياة الإنسان مع حاجته للدين، وجدنا أن مشكلته التي يعاني منها لتحقيق غريزته الدينية تنحصر بين مشكلة "اللا انتماء"، وبين مشكلة "الغلو في الانتماء والانتساب".

ويطلق على المشكلة الأولى اسم: "الإلحاد"؛ باعتبار أن الإلحاد المَثَل الواضح لمشكلة ضياع الإنسان، وعدم انتمائه، ويطلق على المشكلة الثانية اسم: "الشرك" باعتبار أن الشرك هو المَثَل الواضح لمشكلة غلو الإنسان في انتمائه.

وقد جاهد الإسلام هاتين المشكلتين: "الإلحاد"، و"الشرك"؛ إذ هما يمثِّلان العائق أمام فطرة الإنسان السوية التي تقر بأنها بحاجة إلى الدِّين الصحيح الذي تجد فيه ضالتها، فجاهد الإسلام الشرك؛ لأنه يصادم العقل السليم الذي يحيل ألوهية مَن لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا، وحارب الإلحاد الذي يصادم حاجة العقل السليم إلى دين يتشبث به.

وهذا الملحد أو المشرك في الحقيقة يثبت حاجته لربه قهرًا منه في ضروريات حياته، "فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ"؛ فتجده عاجزًا عن القيام بأمره عند وقوع المصائب، منتظرًا ما يحدث له بقاء ضره أو رفعه، وهذا اعتراف منه بوجود إله يلجأ إليه، يدبِّر الأمر بحكمته وقدرته، وهذه المواقف تكرِّس معنى حاجته للتدين التي لا يستغني عنها أبدًا مهما تطوَّرت حياته، فهو يقر بحاجته لوجود إله، ويقر بتلازم قدرة هذا الإله على الخلق والتدبير، والنفع والضر.

فكان لا بد للإنسان من إيمان يربط بين باطنه وظاهره، ولن يجد ذلك إلا بمعرفة الخالق الذي لا يغفل، والقوىِ الذي تؤمن الفطرة بقوته، فينعم في حياته، وينجو في آخرته.

فالإيمان بالواحد الأحد شأن فطري، تنزع إليه النفوس السليمة؛ إذ ليس من المعقول أن يخلق اللهُ العالمَ بهذا الإبداع، ويخلق فيه الإنسان مزودًا بقوى التفكير ثم يتركه يهيم في أودية الضلال -نافيًا لفكرة وجود إله أو مغاليًا في إثبات الألوهية لمن لا يملكها- دون إرشاد وبيان، "وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّىٰ يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ".

 لذا أرشدنا الله تعالى لطريقة إشباع هذه الغريزة بما يضمن لنا فلاحنا في الدنيا والآخرة، قال تعالى: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ . مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ . إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ".

وبيَّن سبحانه أنه المستحق للعبادة؛ لأن الخلق فقراء إليه في إيجادهم، وفي خلق حواسهم التي أعطاهم إياها، وفي هدايتهم، وفي رزقهم وطعامهم وشرابهم، وفي تنظيم حركات أجسادهم، وفي كل حياتهم، "يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ".

ووعد مَن التزم طريق الحق بالفوز والمغفرة، "‌وَعَدَ ‌اللَّهُ ‌الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ".

فالنجاة لا تكون إلا بالتمسك بالدِّين الحق الذي ارتضاه لنا رب العالمين: قال الله سبحانه وتعالى: "وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا".