• الرئيسية
  • المقالات
  • كشف اللثام من كلام الأئمة الأعلام (2) الرد على قولهم إن الشرك لا يظهر بين أفراد الأمة

كشف اللثام من كلام الأئمة الأعلام (2) الرد على قولهم إن الشرك لا يظهر بين أفراد الأمة

  • 132

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فبخطٍّ سقيمٍ، وخاطرٍ عقيمٍ، ودليل مضطرب الحروف، متضاعف الضعف والتحريف، يدعو بعضهم إلى التمسح بالقبور، ونداء أصحابها الذين لا يملكون نفعًا ولا ضرًّا، بل ربما كان بعضهم في أمس الحاجة لأن يدعو الحي له، ولما كانت حجتهم داحضة وبضاعتهم مزجاة مضمحلة؛ سارعوا إلى نصب سراب -يرمي مخالفيهم بلفظ مشين واتهام ساقطٍ سقيم- عساه يشغب على الحقيقة، ويأخذ بأبصار المريدين؛ فلا تلحظ بوار طريقتهم، وانفصال دعوتهم عن هدي السلف والعلماء الربانيين.

وعَلَت الأصوات: هؤلاء وهابية تيمية، ابتدعوا ما لم يقله أحدٌ، فكان هذا البيان الواجب: "كشف اللثام عن حقيقة المتصوفة مِن كلام الأئمة الأعلام"؛ لتسقط دعواهم، ويذهب سرابهم، ويبين عوارهم.

وقد مَضَى معنا أن الإمام الذهبي بيَّن في السِّيَر حقيقة ما يفعله الناس عند ضريح سيدتنا نَفِيْسَة حيث قال: "وَلِجَهَلَةِ ‌المِصْرِيِّيْنَ ‌فِيْهَا ‌اعْتِقَادٌ ‌يَتَجَاوَزُ ‌الوَصْفَ، وَلَا يَجُوْزُ مِمَّا فِيْهِ مِنَ الشِّرْكِ، وَيَسْجُدُوْنَ لَهَا، وَيَلْتَمِسُوْنَ مِنْهَا المَغْفِرَةَ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ دَسَائِسِ دُعَاةِ العُبَيْدِيَّةِ"، وهذا الكلام مهم للغاية؛ فقد أبان أن بعضَ هذه الاعتقادات لا تجوز؛ لأنها شرك، كما أن نداءَ الميت بقول: مدد يا فلان، هو نداء للميت وليس نداء لله،  وطلب للعون من الميت وليس من الله؛ إذ نداء الله معلوم: (اللهم)، أو كما كان الأنبياء يقولون: (رَبِّ).

ثم بين الإمام الذهبي أن ما يدعو إليه هؤلاء من الطواف بالأضرحة وندائها، والاستغاثة بها ليس من الإسلام في شيء، بل هو مِن دَسَائِس دُعَاةِ العُبَيْدِيَّةِ -الشيعة الباطنية-، وهذا يرد على متصوفة زماننا الذين يحرِّفون ويتلاعبون بالألفاظ، مع أن باب العقيدة لا يحتمل هذا التلاعب لقيامه على سدِّ الذريعة، فحين يقول ربنا: "‌وَلَا ‌تَقْرَبُوا ‌الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا"، فمِن باب أولى نقول للناس: "ولا تقربوا الشرك"؛ لأن أمره أخطر "‌إِنَّ ‌اللَّهَ ‌لَا ‌يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا".

قال الحافظ ابن كثير في "البداية والنهاية": "‌وَقَدْ ‌بَالَغَ ‌الْعَامَّةُ ‌فِي ‌أَمْرِهَا ‌-يعني السيدة نفيسة- كَثِيرًا ‌جِدًّا، وَيُطْلِقُونَ فِيهَا عِبَارَاتٍ بَشِعَةً، فِيهَا مُجَازَفَةٌ تُؤَدِّي إِلَى الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ!"؛ فانظر وتأمل حتى لا تغتر بمعسول التبريرات مع سيل الاتهامات؛ هذا كلام الحافظ ابن كثير، وليس كلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب.

فإن قالوا لنا: على رسلكم، إن النبي صلى الله عليه وسلم نفى وقوع الشرك في أمته، وقال كما عند البخاري: "وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا بَعْدِي"؛ قلنا: على رسلكم أنتم، ولا تستقلوا بفهم النصوص بعقولكم وأهوائكم، فليس في الحديث نفي لوقوع الشرك في هذه الأمة، بل فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يخاف على وقوع الأمة بمجملها وجموعها كلها في الشرك؛ لأن الله عز وجل عَصَمَها مِن ذلك، فهي لا تجتمع على ضلالة؛ فضلًا عن الشرك، أما آحاد الأمة وبعض أفرادها فقد يقع منهم الشرك، وهذا ظاهر بوقوع بعضهم في الردة عن الدِّين، وكذلك دلَّت نصوص أخرى على إخباره صلى الله عليه وسلم بأن بعض أمته يقع في الشرك.

وهذا الفهم هو فهم العلماء والأئمة؛ قال النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم: "وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مُعْجِزَاتٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه سلم، ‌فَإِنَّ ‌مَعْنَاهُ: ‌الْإِخْبَارُ ‌بِأَنَّ ‌أُمَّتَهُ ‌تَمْلِكُ ‌خَزَائِنَ ‌الْأَرْضِ، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ، وَأَنَّهَا لَا تَرْتَدُّ جُمْلَةً، وَقَدْ عَصَمَهَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ، وَأَنَّهَا تَتَنَافَسُ فِي الدُّنْيَا، وَقَدْ وَقَعَ كُلُّ ذَلِكَ".

وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في فتح الباري: "قَوْلُهُ: (مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا) ‌أَيْ: ‌عَلَى ‌مَجْمُوعِكُمْ؛ ‌لِأَنَّ ‌ذَلِكَ ‌قَدْ ‌وَقَعَ مِنَ الْبَعْضِ -أَعَاذَنَا اللَّهُ تَعَالَى-".

وقد دلَّت السنة الصحيحة على أن مِن هذه الأمة مَن يشرك بالله تعالى، ففي الحديث المتفق عليه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَضْطَرِبَ أَلَيَاتُ نِسَاءِ دَوْسٍ عَلَى ذِي الْخَلَصَةِ"، وَذُو الْخَلَصَةِ: طَاغِيَةُ دَوْسٍ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وعند مسلم: "لَا يَذْهَبُ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ حَتَّى تُعْبَدَ اللَّاتُ وَالْعُزَّى، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُ لَأَظُنُّ حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ: "هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ" أَنَّ ذَلِكَ تَامًّا؟ قَالَ: إِنَّهُ سَيَكُونُ مِنْ ذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ رِيحًا طَيِّبَةً، فَتَوَفَّى كُلَّ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ، فَيَبْقَى مَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ فَيَرْجِعُونَ إِلَى دِينِ آبَائِهِمْ"، وبذا استبان أن بعض المسلمين سوف يقع في الشرك والردة، مِن دون أن يعم ذلك جميع الأمة.

وكيف يشك مسلم في أن دعاء الأموات، والتضرع إليهم في الملمات، وسؤالهم تفريج الكربات مِن الشرك؟!

بل هذا عين ما كان يفعله المشركون الأوائل؛ طلبًا للزلفى أو الشفاعة عند الله، كما قال تعالى: "وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ"، وقال سبحانه: "وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ . وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا".

قال ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى: "‌فَمَنْ ‌جَعَلَ ‌الْمَلَائِكَةَ ‌وَالْأَنْبِيَاءَ ‌وَسَائِطَ ‌يَدْعُوهُمْ ‌وَيَتَوَكَّلُ ‌عَلَيْهِمْ، ‌وَيَسْأَلُهُمْ ‌جَلْبَ ‌الْمَنَافِعِ وَدَفْعَ الْمَضَارِّ مِثْلَ أَنْ يَسْأَلَهُمْ: غُفْرَانَ الذَّنْبِ، وَهِدَايَةَ الْقُلُوبِ، وَتَفْرِيجَ الْكُرُوبِ، وَسَدَّ الفاقات؛ فَهُوَ كَافِرٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ".

ونقل هذا الإجماع غيرُ واحدٍ مِن أهل العلم مقرِّين له؛ قال في "كشاف القناع" بعد ذكر هذا الإجماع في باب حكم المرتد: "‌لأن ‌ذلك ‌كفعل ‌عابدي ‌الأصنام قائلين: مَا نَعْبُدُهُمْ إلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى"، وقد صَرَّح الرازي بأن ما يفعله بعض الجهلة من المسلمين من التعلُّق بالقبور هو عين ما كان عليه المشركون الأوائل، فقال في تفسير آية يونس السابقة: "وَرَابِعُهَا: ‌أَنَّهُمْ ‌وَضَعُوا ‌هَذِهِ ‌الْأَصْنَامَ ‌وَالْأَوْثَانَ ‌عَلَى ‌صُوَرِ ‌أَنْبِيَائِهِمْ ‌وَأَكَابِرِهِمْ، وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ مَتَى اشْتَغَلُوا بِعِبَادَةِ هَذِهِ التَّمَاثِيلِ، فَإِنَّ أُولَئِكَ الْأَكَابِرَ تَكُونُ شُفَعَاءَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّه تَعَالَى، وَنَظِيرُهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ اشْتِغَالُ كَثِيرٍ مِنَ الْخَلْقِ بِتَعْظِيمِ قُبُورِ الْأَكَابِرِ، عَلَى اعْتِقَادِ أَنَّهُمْ إِذَا عَظَّمُوا قُبُورَهُمْ فَإِنَّهُمْ يَكُونُونَ شُفَعَاءَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّه".

وفي الختام: قد خاف خليلُ الله إبراهيم عليه السلام مِن الوقوع في الشرك، فسارع بدعاء ربِّه بالعصمة: "‌وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ"؛ فكيف بمَن دونه؟! لذا علمنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن ندعو: "اللَّهُمَّ أَنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ ‌أَنْ ‌أُشْرِكَ ‌بِك ‌شَيْئًا وَأَنَا أَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُك لِمَا لَا أَعْلَمُ".

وللحديث بقية إن شاء الله.