وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ (يوم عاشوراء)

  • 131

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسو الله، أما بعد؛

فإن حاجةَ الإنسان مَاسَّةٌ إلى تذكُّر أيامِ الله تبارك وتعالى، وما فيها مِن النِّعَم والعِبَر، وما اشتملت عليه مِن المِنَح والمِحَن، والعِظَات؛ ولذلك كان التذكير بأيام الله عز وجل مِن مقاصد بعثة الرُّسُل، كما أمر الله تعالى موسى عليه السلام بذلك، فقال تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) (إبراهيم:5).

"والمراد بأيام الله: التذكير بأيام نقم الله التي أوقعها بالماضين: كعاد وثمود، ومَن جرى مجراهم. ويجوز أن تكون الأيام هاهنا عبارة عن أيام النِّعَم، كما قلنا إنها عبارة عن أيام النقم. فيكون المعنى: فذكّرهم بالأيام التي أنعم الله فيها عليهم وعلى الماضين من آبائهم بإهلاك الأعداء، ‌وكشف ‌اللّأواء، وإسباغ النعماء؛ فالأيام تذكرة لمَن أراد التذكرة بالإنعام والانتقام" (الموسوعة القرآنية خصائص السور بتصرفٍ).

وهذه الأيام إنما ينتفع بتذكرها: كل "صَبَّارٍ شَكُورٍ" كما أخبر الله تعالى: "أي: يصبر على بلائه سبحانه ويشكر نعماءه؛ فإذا سمع بما أنزل الله مِن البلاء على الأمم، أو أفاض عليهم مِن النعم؛ تنبَّه على ما يجب عليه مِن الصبر والشكر" (تفسير القاسمي محاسن التأويل).

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (‌عَجَبًا ‌لِأَمْرِ ‌الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ) (رواه مسلم).

وتذكُّر الإنسان لأيام الله مِن أعظم أسباب فرحه وسعادته؛ لأن تذكر ذلك يملأ قلب العبد بالفرح والأمل، وانتظار الفرج مِن الله سبحانه وتعالى، واليقين بأن العاقبة للمتقين، وأن مآل الكافرين والظالمين والفاجرين إلى البوار والجحيم، وأن ما بين طرفة عين وانتباهتها تتقلب الأمور، وتنقلب الموازين، وتتغير الأحوال بقدرة الله تبارك وتعالى، ويدبر الليل، ويظهر الصبح.

وأيام الله: ليست الأيام الماضية فحسب؛ إذ يخطئ مَن يقصر الأمر بالتفكر في أخبار الأمم السابقة، وينسى أيام الله في الأمم الحاضرة والمعاصرة، مع أن المشركين قديمًا قد أنكر الله عليهم ذلك، فقال: "أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ"، فمَن تأمل ونظر بما يقع حوله مِن إعزاز الله لقومٍ وإذلاله لآخرين؛ تبيَّن له عظيم قدرة الله الباهرة، وعظيم صنعه، وأن الأمور كلها تحت تدبيره وتصرفه، وأن الكافرين والظالمين لا يملكون شيئًا ولا نفعًا ولا ضرًّا؛ لا لأنفسهم ولا لغيرهم.

كما أن غفلة الإنسان عن تذكر أيام الله مِن أعظم أسباب همِّه وشقائه؛ فعندما ينسى الإنسان أيام الله ويغفل عنها، فإنه يتحول إلى ذلك الكائن الذي لا بصيرة له ولا حكمة، ولا معرفة له بأسباب نجاة الأمم -والأفراد- وأسباب هلاكها، بل لا يعرف إلا الشهوة والهوى، أو على أحسن أحواله يطيع تارة ويعصي تارة، ولا يدري على ماذا يأتيه الموت وعلى أي حال يلقى ربه!

وإن يوم عاشوراء يوم مبارك عظيم مِن أيام الله تبارك وتعالى، حقيقٌ بالمسلم أن يستعد له ويحسن استقباله بالتوبة الصادقة، والتعرُّض لرحمه الله ومغفرته.

ومِن بركات هذا اليوم العظيم:

- أنه أحد أيام شهر الله المحرم، وهو أحد الأشهر الحرم التي عظَّمها الله تعالى فقال: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)، وبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأشهر الحرم كما في حديث بَكْرَةَ رضي الله عنه مرفوعًا: (إنَّ الزَّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ).

- وشهر الله المحرم يستحب الإكثار فيه مِن الصيام عمومًا: لما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (‌أَفْضَلُ ‌الصِّيَامِ ‌بَعْدَ ‌رَمَضَانَ ‌شَهْرُ ‌اللهِ ‌الْمُحَرَّمُ).

- ويوم عاشوراء يتأكد صيامه بوجه خاص: لما جاء في فضل صيامه مِن أنه يكفِّر سنة ماضية، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (َصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ) (رواه مسلم).

مراتب صوم يوم عاشوراء:

بيَّن الإمام ابن القيم رحمه الله مراتب صوم يوم عاشوراء فقال: "مراتب صومه ثلاثةٌ: أكملُها أن يصام قبله يومٌ وبعده يومٌ، ‌ويلي ‌ذلك: ‌أن ‌يصام ‌التَّاسع ‌والعاشر -وعليه أكثر الأحاديث-، ويلي ذلك: إفراد العاشر وحده بالصَّوم" (زاد المعاد في هدي خير العباد).

نسأل الله تعالى أن يبلغنا يوم عاشوراء، وأن يتقبلنا في عباده الصالحين، وأن يفتح علينا في الدِّين، ويجعلنا مِن عباده الصابرين الشاكرين.