وقفات مع سورة الكهف (5)

  • 153

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فنواصل وقفاتنا مع سورة الكهف، ووقفتنا اليوم مع قوله تعالى: "نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ" أي: بالصدق، والباء للملاصقة، أي: القصص المصاحب للصدق لا التخرصات.

- "إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ" أي: شباب، وهم أقبل للحق وأهدي للسبيل من الشيوخ الذين عتوا وانغمسوا في دين الباطل؛ ولهذا كان أكثر المستجيبين لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم شبابًا، وأما المشايخ من قريش؛ فعامتهم بقوا على دينهم، ولم يسلم منهم إلا القليل.

وكأنها رسالة للنبي صلى الله عليه وسلم، ودعوة للاهتمام بالشباب؛ لأنهم عَصَب الأمة وعمادها، وبهم وعلى أكتافهم تقوم الدول والمجتمعات؛ ولأنهم أقبل للحق.

- قال تعالى: "وَزِدْنَاهُمْ هُدًى" أي: زدناهم إيمانًا إلى إيمانهم، وبصيرة بدينهم حتى صبروا على هجران دار قومهم، والهرب من بين أظهرهم بدينهم إلى الله، وفراق ما كانوا فيه من خفض العيش ولينه إلى خشونة المكث في كهف جبل.

وفوق ذلك أعطاهم المولى تعالى مزية أخرى بقوله: "وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ" أي: ثبتنا قلوبهم وقويناها على الصبر؛ حتى لا يجزعوا ولا يخافوا أن يصدعوا بالحق، ويصبروا على فراق الأهل والنعيم، والفرار بالدين في غار بجبل لا أنيس به، ولا ماء ولا طعام.

قال ابن القيم رحمه الله: "والربط على القلب عكس الخذلان، فالخذلان حله من رباط التوفيق فيغفل عن ذكر ربه ويتبع هواه، ويصير أمره فرطًا، والربط على القلب: شده برباط التوفيق، فيتصل بذكر ربه، ويتبع مرضاته، ويجتمع عليه شمله".

قال الشنقيطي رحمه لله: "وفي الآية: أن مَن كان في طاعة الله يقوي قلبه، ويثبت على تحمُّل الشدائد والصبر الجميل"، ولأنهم فتية آتاهم الله هدى وربط على قلوبهم صدعوا بالحق.

- "إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهًا" أي: بين يدي الملك الذي كان يدعو لعبادة الأوثان، وجمعوا بين الإقرار بتوحيد الربوبية وتوحيد الإلهية، والتزام ذلك، وبيان أنه الحق وما سواه باطل، وهذا دليل على كمال معرفتهم بربهم وزيادة الهدى من الله لهم، وإقرارهم كذلك بتوحيد الربوبية والإلهية ردًّا على الكفار الذين كانوا يؤمنون بالربوبية دون الإلهية.

وذكروا هنا "لَن نَّدْعُوَ" قال ابن عاشور رحمه الله: "وذكروا الدعاء دون العبادة؛ لأن الدعاء يشمل الأقوال كلها من إجراء وصف الألوهية على غير الله، ومن نداء غير الله عند السؤال".

وعلموا أن تلك الأقوال من الشطط، "لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا"؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما: "جورًا"، وقال قتاده رحمه الله: "كذبًا"، وأصل الشطط: مجاوزة القدر والإفراط. وقيل: الإفراط في مخالفة الحق والصواب؛ ولذلك أكدوا كلامهم كما قال العثيمين رحمه الله: "والجملة هنا مؤكدة بثلاث مؤكدات وهي: (اللام - قد - القسم".

ثم أكمل المولى تعالى الحديث على ألسنتهم بقولهم: "هَؤُلاء قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ"، والسلطان هو: الحجة والبرهان، والبيِّن أي: الواضح.

وفي هذا تبكيت لهم؛ لأن الإتيان بالسلطان على عبادة الأوثان محال، وهو دليل على فساد التقليد، وأنه لا بد في الدِّين من الحجة حتى يصح ويثبت.

قال العثيمين رحمه الله: "والسلطان المطلوب أولًا: أن يثبِتوا أن هذه آلهة. والثاني: أن يثبتوا أن عبادتهم لها حق، وكلا الأمرين مستحيل".

ولهذا وصف المولى تعالى هذا الأمر بأنه افتراء عظيم، فقال تعالى: "فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا"، أي: لا أحد أظلم ممَّن افترى على الله الكذب بادِّعاء أن له شريكًا، وهو استفهام إنكاري، والمراد: أنه أظلم من غيره، وليس المساواة بينهما.

وإلى اللقاء في الحلقة القادمة.