كشف اللثام من كلام الأئمة الأعلام (3) سفه عظيم وضلال جديد!

  • 110

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

من يرى بعين البصر والبصيرة ما يجري عند الأضرحة من استغاثات بغير الله، وطواف بغير الكعبة، وسجود لغير القبلة، ونذر لغير الله؛ يدرك عظيم الكارثة وكبير الفاجعة في جناب التوحيد، وديانة الناس لرب العبيد؛ فالأموال للأضرحة مدرارة، والوفود إليها فوّارة، والأدلة الباطلة والتبريرات ممَّن له مظهر أهل العلم على ذلك كثيرة سيَّارة!

حتى إنك لتدرك بأقل إدراك، مدى السذاجة في استعمال الأدلة وتفسيرها على غير مرادها، وتحميلها ما لا تحتمل، وبلغ الأمر الزبى حين يبدأون في الدعاء بغير الله، فيقولون: "مدد يا سيدي فلان... "، وتجاوز بعضهم فأوجب نداء الأموات في قبورهم عند المدلهمات؛ الأمر الذي يجعل العقلاء يضجون، ويبكون التوحيد، وينكرون المنكر الأكبر!

وللهِ درُّ الإمام الشّوكاني حيثُ يَقُولُ في "نيل الأوطار": "‌وَكَمْ ‌قَدْ ‌سَرَى ‌عَنْ ‌تَشْيِيدِ ‌أَبْنِيَةِ ‌الْقُبُورِ ‌وَتَحْسِينِهَا ‌مِنْ ‌مَفَاسِدَ يَبْكِي لَهَا الْإِسْلَامُ، مِنْهَا: اعْتِقَادُ الْجَهَلَةِ لَهَا كَاعْتِقَادِ الْكُفَّارِ لِلْأَصْنَامِ: وَعَظُمَ ذَلِكَ فَظَنُّوا أَنَّهَا قَادِرَةٌ عَلَى جَلْبِ النَّفْعِ وَدَفْعِ الضَّرَرِ، فَجَعَلُوهَا مَقْصِدًا لِطَلَبِ قَضَاءِ الْحَوَائِجِ، وَمَلْجَأً لِنَجَاحِ الْمَطَالِبِ، وَسَأَلُوا مِنْهَا مَا يَسْأَلُهُ الْعِبَادُ مِنْ رَبِّهِمْ، وَشَدُّوا إلَيْهَا الرِّحَالَ وَتَمَسَّحُوا بِهَا وَاسْتَغَاثُوا، وَبِالْجُمْلَةِ إنَّهُمْ لَمْ يَدَعُوا شَيْئًا مِمَّا كَانَتْ الْجَاهِلِيَّةُ تَفْعَلُهُ بِالْأَصْنَامِ إلَّا فَعَلُوهُ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ.

وَمَعَ هَذَا الْمُنْكَرِ الشَّنِيعِ، وَالْكُفْرِ الْفَظِيعِ؛ لَا تَجِدُ مَنْ يَغْضَبُ لِلَّهِ، وَيَغَارُ حَمِيَّةً لِلدِّينِ الْحَنِيفِ؛ لَا عَالِمًا وَلَا مُتَعَلِّمًا، وَلَا أَمِيرًا وَلَا وَزِيرًا، وَلَا مَلِكًا، وَقَدْ تَوَارَدَ إلَيْنَا مِنْ الْأَخْبَارِ مَا لَا يُشَكُّ مَعَهُ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ هَؤُلَاءِ الْمَقْبُورِينَ أَوْ أَكْثَرِهِمْ إذَا تَوَجَّهَتْ عَلَيْهِ يَمِينٌ مِنْ جِهَةِ خَصْمِهِ حَلَفَ بِاَللَّهِ فَاجِرًا، فَإِذَا قِيلَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: احْلِفْ بِشَيْخِك وَمُعْتَقَدِكَ الْوَلِيِّ الْفُلَانِيِّ تَلَعْثَمَ وَتَلَكَّأَ وَأَبَى، وَاعْتَرَفَ بِالْحَقِّ.

وَهَذَا مِنْ أَبْيَنِ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ شِرْكَهُمْ قَدْ بَلَغَ فَوْقَ شِرْكِ مَنْ قَالَ: إنَّهُ تَعَالَى ثَانِيَ اثْنَيْنِ، أَوْ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ! فَيَا عُلَمَاءَ الدِّينِ وَيَا مُلُوكَ الْمُسْلِمِينَ، أَيُّ رُزْءٍ لِلْإِسْلَامِ أَشَدُّ مِنْ الْكُفْرِ؟! وَأَيُّ بَلَاءٍ لِهَذَا الدِّينِ أَضَرُّ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ؟ وَأَيُّ مُصِيبَةٍ يُصَابُ بِهَا الْمُسْلِمُونَ تَعْدِلُ هَذِهِ الْمُصِيبَةَ؟! وَأَيُّ مُنْكَرٍ يَجِبُ إنْكَارُهُ إنْ لَمْ يَكُنْ إنْكَارُ هَذَا الشِّرْكِ الْبَيِّنِ وَاجِبًا؟!

لَقَدْ أَسْمَعْت لَوْ نَادَيْتَ حَيًّا … وَلَكِنْ لَا حَيَاةَ لِمَنْ تُنَادِي

وَلَوْ نَارًا نَفَخْت بِهَا أَضَاءَتْ … وَلَكِنْ أَنْتَ تَنْفُخُ فِي رَمَادِ

وقال الآلوسي في روح المعاني عند تفسير قوله تعالى: "‌ثُمَّ ‌إِذَا ‌كَشَفَ ‌الضُّرَّ ‌عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ": "‌وفي ‌الآية ‌ما ‌يدل ‌على ‌أن ‌صنيع أكثر العوام اليوم مِن اللجوء إلى غيره تعالى؛ ممَّن لا يملك لهم، بل ولا لنفسه نفعًا ولا ضرًّا عند إصابة الضر لهم، وإعراضهم عن دعائه تعالى عند ذلك بالكلية سفه عظيم، وضلال جديد، لكنه أشد من الضلال القديم.

ومما تقشعر منه الجلود، وتصعر له الخدود الكفرة أصحاب الأخدود؛ فضلًا عن المؤمنين باليوم الموعود: أن بعض المتشيخين قال لي وأنا صغير: إياك ثم إياك أن تستغيث بالله تعالى إذا خطب دهاك، فإن الله تعالى لا يعجل في إغاثتك، ولا يهمه سوء حالتك، وعليك بالاستغاثة بالأولياء السالفين، فإنهم يعجلون في تفريج كربك، ويهمهم سوء ما حل بك فمج ذلك سمعي وهمي ودمعي، وسألت الله أن يعصمني والمسلمين من أمثال هذا الضلّال المبين، ولكثير من المتشيخين اليوم كلمات مثل ذلك!".

قلتُ: صدق الإمام الآلوسي، فقد سمعتها بنفسي في فيديو مسجَّل لبعض هؤلاء الطرقية، وهو يخاطب بعض المريدين!

ومَن تأمل كلمات وتوجيهات أكثر هؤلاء؛ أدرك ذلك بوضوح حتى وإن لم يصرح بعضهم، فلسان الحال دال على ذلك.

وقال الآلوسي أيضًا عند تفسير قوله تعالى: "‌وَما ‌يُؤْمِنُ ‌أَكْثَرُهُمْ ‌بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ": "وقد يقال نظرًا إلى مفهوم الآية: ‌إنهم ‌من ‌يندرج ‌فيهم كل من أقر بالله تعالى وخالقيته مثلًا، وكان مرتكبًا ما يعد شركًا كيفما كان، ومن أولئك عبدة القبور الناذرون لها، المعتقدون للنفع والضر ممَّن الله تعالى أعلم بحاله فيها، وهم اليوم أكثر من الدود".

ورحم الله شَاعِرَ النِّيلِ حَافِظَ إبراهيم في قوله يخاطب الأستاذ الإمام محمد عبده:

إمام الهدى إني أرى القوم أبدعوا … لهم بدعًا عنها الشريعة تعزف

رأوا في قبور الميتين حياتهم … فقاموا إلى تلك القبور وطوفوا

وباتوا عليها جاثمين كأنهم … على صنم الجاهلية عكف

ولمّا قرأ حافظ في جريدة أن دَخْل قبر السيد البدوي ستون ألف جنيه، في وقت كان هو يعاني فيه مِن الفقر، أنشد: 

أحْيــَاؤُنَا لاَ يُـرْزَقُونَ بِدِرْهَـمٍ             وبألْفِ ألْفٍ تُرْزَقُ الأَمْـواتُ

مَنْ لِـي بِحَـظِّ النَّائِمـينَ بِحُفْرَةٍ           قَامَتْ عَلَى أعْتَابِهَا الصَّلَواتُ

يَسْعَى الأنَامُ لَهَا ويَجْرِي حَولَــهَا        بَحْــرُ النُّذُورِ وتُقْرَأُ الآياتُ

وَيُقَالُ: هَذَا القُطْبُ بَابُ الْمُصْطَفَى       ووَسِيلَةٌ تُقْضَى بِهَا الْحَاجَاتُ

للسيد البدوي دخلُ قدره                  ‏ستون ألفًا والحظوظ هباتُ

‏وأنا أُعذَّبُ في الوجودِ وليس            لي ‏يا أمَّ عمرٍو ما به أقتاتُ!

وقال مصطفى المنفلوطي في النظرات: "كل ما نراه اليوم بين المسلمين من الخلط في عقيدة القضاء والقدر، وعقيدة التوكل، ‌وتشييد ‌الأضرحة وتجصيص القبور وتزيينها، والترامي على أعتابها، والاهتمام بصور العبادات وأشكالها دون حكمها وأسرارها، وإسناد النفع والضرر إلى رؤساء الدين، وأمثال ذلك، أثر من آثار المسيحية الأولى، وليس من الإسلام في شيء".