التَّدَيُّن المصري!

  • 187

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فكثيرًا ما تُسْتَخْدَم تلك العبارة: "التديُّن المصري" في تخييل صورة غير حقيقية، وافتراض غريب جدًّا ليس له أساس، عن وجود نمط مخصوص من التدين للمصريين، واعتبار ذلك أصلًا يتم الانطلاق منه إلى اتهام المخالف بأنه يخالف نمط تدين المصريين، وبالتالي فهو مرفوض!

فتجد عددًا مِن مُدعي القومية والوطنية -فضلًا عن العلمانيين والليبراليين وغيرهم- ممَّن يدعي وجود صورة نمطية معينة للتدين المصري، وادِّعاء أن هذه الصورة هي الصورة المثلى للتدين أو الصورة المقبولة، ويصفون هذا التدين بأنه التدين الحقيقي، واعتبار أي شيء آخر غير ذلك النمط -المختلق- هو صورة مستوردة غريبة عن المجتمع المصري، بحيث يتم تبشيع تلك الصورة والتشنيع عليها!

ثم تأتي مرحلة تكرار هذه الفكرة والدفاع عنها، بل يتجاوز البعض هذا الأمر وكأنه مُسلَّم به إلى ذكر خصائص لهذا التدين، بل وذكر مزايا وأنه تدين أكثر عمقًا وأصالة، وحكمة ونضجًا، إلخ من هذا الكلام المستهلك المعتاد سماعه.

وقطعًا فليس المراد بحث تلك المسألة في هذه المقالة القصيرة، لكن نختصر الكلام في التنبيه على عِدَّة أمور:

1- لا أحد يختلف أن لكلِّ شعب طبيعته وخصائصه، وقد تحدث ابن خلدون في مقدمته الشهيرة عن علاقة الإنسان ببيئته، وأثر المناخ في طبائع الشعوب، وتأثير الهواء على ألوان البشر وأبدانهم، فذكر ابن خلدون أن للبيئة الطبيعية أثرًا في تكوين الصفات النفسية للشعوب، وإكسابها طبائعها وخصائصها، فالأمم تختلف في ألوانها ونشاطها وشجاعتها، وكثرة عددها أو قِلَّتها، وفيما فطرت عليه من الطبائع باختلاف مساكنها من وجه الأرض بين جبلٍ وسهلٍ، أو في منطقة باردة أو حارة أو معتدلة، أو في بقعة خصبة أو قاحلة، وهذا بشكل تلقائي سيؤثِّر على تطبيقاته وتعامله مع الأحكام.

2- أيضًا لا أحد يختلف أن الواقع نفسه يفرض بعض التغييرات أو الترجيحات المتعلقة بتحقيق المناط وتنزيل الأحكام الشرعية على الواقع الخاص، وهذا في الحقيقة هو من الشريعة وليس خاصًّا بشعب معين، وإنما لكل الأمم خصائصها وواقعها الذي يحتاج إلى تنزيل الأحكام الشرعية عليها بشيء من الفقه والحكمة.

3- وإن كان لهذه الخصائص تأثيرًا على تطبيقات الأحكام؛ فهي غير مؤثرة في الحكم نفسه ولا التشريع ذاته -فهو التشريع الخاتم الكامل الصالح لكل زمان ومكان-، وإنما تؤثِّر تلك الخصائص في تحقيق المناط وتنزيل الأحكام على أرض الواقع، فالشريعة قد كملت، "وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا"، وقد قال العليم الحكيم الخبير "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا"؛ فلا يمكن أن يزاد فيها ولا ينقص، ولا يمكن أن تُجعل الشريعة مرتعًا لكلِّ متلاعب يضيف لها ويحذف منها حتى تتحول إلى أديان مختلفة لكل شعب نسخته الخاصة، ويتم فرض تلك النسخة الخاصة على الناس!

4- إذا تجاوزنا كل ذلك؛ فعن أي صورة من التدين المصري تتحدثون؟! هل تدين المصريين في عهد الفاتحين الأوائل مِن السلف الصالح فمَن بعدهم مِن الأجيال المسلمة من المصريين كان تدينا مصريًا أم أن المصريين وقتها ليسوا بمصريين في نظركم؟!

وماذا عنه في عهد الدول الإسلامية المتعاقبة؟!

وماذا قبل 100 سنة من الآن؟

أم يقتصر التدين المصري في نظر البعض على حقبة قصيرة منذ عشرينيات إلى سبعينيات القرن الماضي؟! فهل هي صورة النساء غير المحجبات تمامًا في عهد عبد الناصر وما بعد سعد زغلول؟ هل هي صورة السبعينيات أم صورة الثمانينيات أم الصورة الموجودة الآن؟

وهل هذه الصورة المدعاة الآن هي نفس الصورة الموجودة منذ الفتح الإسلامي على يد عمرو بن العاص والصحابة الكرام مرورًا بقرون طويلة جدًّا؟!

في الحقيقة نظرة بسيطة جدًّا في تاريخ الواقع المصري منذ قرن أو قرنين فقط؛ تجعلك تدرك أن البون شاسعًا تمامًا؛ فما تلك الصورة النمطية للتدين المصري إذًا -والذي يتم استدعاؤها دائما في النقاشات في مصادرة على المطلوب واحتجاج بالأكثرية، وتعميم متسرع، ومغالطة الاحتكام إلى الشعبية، إلى غير ذلك من المغالطات-؟!

5- ما يتم الحديث عنه من تحديد صورة معينة للتدين المصري؛ هي في الحقيقة ليست هي صورة التدين المصري، وإنما الصورة الحالية التي يتم فرضها هي حالة خاصة من محاولات الدمج أو التوسط بين أشياء من المبادئ الليبرالية والعلمانية التي يتم فرضها على المجتمعات في النظام العالمي القائم، مع أشياء من تأثيرات الاحتلال والذي جثم مددًا طويلة على شعوب المنطقة، مع قدر كبير وقوي وراسخ من تمسك الشعب المصري بدينه وتعظيم الشريعة وتعظيم القرآن، إلخ.

ولا ننسى عمق دور الأزهر على مدار قرون طوال، خصوصًا في عهود قوته واستقلاله نسبيًّا، ولا ننسى دور المصلحين عبر التاريخ من الأزهر، ومن غير الأزهر؛ فنشأت حالة من الخلط بين المتناقضات؛ فالصورة الحقيقية الصافية للتدين المصري هي ما كان قبل تلك الانحرافات والضغوط الحالية، والموازنات العالمية الجائرة؛ إذ إننا في موقف الضعف المتأثر بغيره أكثر من كونه مؤثرًا في غيره، لكن البعض يريد أن يتصالح مع الواقع المشوه الحاصل في فترات ضعف الأمة، بل ويتجاوز ذلك إلى شرعنته، بل وفرضه، بل ومعاقبة من يخالفه!

6- البعض يريد أن يحصر الألوان في الأبيض والأسود! فإما أن يكون التدين المصري كله صحيحًا، وإما أنك تبطله بالكلية؛ إما تصحيح الواقع، بل والاحتجاج به، أو في المقابل تكفير المجتمعات!

ونحن لسنا مضطرين لقبول هذه الثنائيات، بل فيه حق وباطل، وخير وشر، نتاج صراعات طويلة فكرية ومجتمعية وسياسية، إلخ، فالمجتمع ليس بمعصوم، ولا هو أيضًا بمجتمع جاهلي، فالواجب علينا أن نعدل في الحكم، ونزن الأمور بميزان الشرع، فنقبل الحق ونؤكِّد عليه، وننطلق منه ونبني عليه، ونسعى في زيادته، ونرد الباطل والشر والفساد، ونسعى في تقليله وإزالته.

7- إن مساحة الدين في حياتنا كمصريين ليست بالقيلة، ولكن الكثير منها صار يشبه الطقوس والشعائر دون أن يثمر ذلك تحقيق التقوى المنشودة، وتعديل السلوك، والرقي بالأخلاق والقيم؛ فلا بد من لفت النظر دائمًا إلى حقيقة العبادة وجوهرها، وتعميق معاني التدين.

وعامة الشعوب والأمم على مدار التاريخ -كما أثبتت الأبحاث العلمية- كان عندها مظاهر للتدين والتعبد والتوجه لما يمثِّل عندهم الإله -وهذا أحد أوجه الرد على الموجة الإلحادية المعاصرة-، ولا ننكر أن هناك طبيعة مصرية موروثة عبر التاريخ تعطي اهتمامًا كبيرًا بالدين والعبادة، وأمور ما بعد الموت، وعالم الغيبيات، وهو أمر ظاهر عبر التاريخ المصري بعصوره المختلفة، لكن الذي نريد أن نقوله: إن هذا الأمر ليس خصيصة للشعب المصري دون باقي الشعوب، وإنه ليس دليلًا على تصحيح شيء أو إبطال آخر.

8- التنبيه الأخير والأهم هو: التأكيد على أن المرجع والحكم هو الدليل الشرعي من الكتاب والسنة والإجماع، وما يتفرع على ذلك من مصادر التشريع -والتي منها العرف الذي لا يخالف الشرع-، وهذه هي القضية المفصلية المحورية؛ قضية مرجعية الدليل، وأنه هو الميزان الذي نفرِّق به بين الحق والباطل، والهدى والضلال.

ويكفيك تأمل مثل تلك الآيات بقلبك وعقلك؛ قال الله تعالى: "قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ . يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ"، "قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ"، "لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ"، ونظائرها في القرآن الكثير؛ "ألا يَعلم مَن خَلَقَ وهو اللطيف الخبير"؟!

فتحكيم العرف المخالف للشرع هو مِن اتباع الهوى، وقد قال الله تعالى: "وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ . أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ"، وقال صلى الله عليه وسلم: "تركتُ فيكم ما إن تَمَسَّكتم به لن تضلوا بعدي أبدًا؛ كتاب الله وسُنَّتي".