كَشْفُ اللثَامِ مِنْ كَلَامِ الأَئِمّةِ الأَعْلَامِ (4) (علماء الحنفية)

  • 99

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد قال أبو المعالي برهان الدين محمود بن أحمد بن مَازَةَ البخاري الحنفي (ت ٦١٦هـ) في كتاب: (المحيط البرهاني في الفقه النعماني فقه الإمام أبي حنيفة): (‌تزوج ‌امرأة ‌بشهادة ‌الله ‌ورسوله لا يجوز؛ لأن هذا نكاح لم يحضره شهود، وعن أبي القاسم الصفار -رحمه الله- أنه قال: يكفر مَن فعل هذا؛ لأنه اعتقد أن رسول الله عليه السلام عالم الغيب) وقد عارضه بعض متأخري الأحناف في التكفير، ولم ينسبه إلى الغلو.

فانظر -يا رعاك الله- هؤلاء أئمة المذهب وليسوا وهابية؛ كيف عاملوا مَن اعتبر رسول لله شاهدًا في مثل تلك الحالات؛ لأن رسولَ الله صلى الله وسلم وإن كان حيًّا في قبره؛ إلا أنها حياة برزخية لا يعلم حقيقتها إلا الله، أما مِن الناحية البشرية فهو ميت "‌إِنَّكَ ‌مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ"، وليس له سمع يسع الأصوات، والملائكة هي من تبلغه السلام عليه كما قال عليه الصلاة والسلام: "‌إِنَّ ‌لِلَّهِ ‌مَلَائِكَةً ‌سَيَّاحِينَ، ‌يُبَلِّغُونِي ‌عَنْ ‌أُمَّتِي ‌السَّلَامَ"؛ فإذا كان هذا في شأن النبي صلى الله عليه وسلم وهو له مِن الخصائص ما ليست حتى لرسول غيره، فكيف بمَن دونه ودونهم؟!

وبذا يظهر دجل الطرقية وخداعهم لمريديهم!

قال شارح مختصر القدري على ما قاله العلامة الخجندي (1379هـ) في بيان أن استغاثة القبورية ليست من الشرك فحسب، بل هي أمُّ الشركيات، ومتضمنة لعدة أنواع من الشرك: (وها أنا أذكر لك نصوص المذهب الحنفي عن الكتب المعتبرة، والفتاوى المشهورة، ففي شرح القدوري: ‌أن ‌مَن ‌يدعو ‌غائبًا ‌أو ‌ميتًا ‌عند ‌غير ‌القبور، ‌وقال: ‌يا ‌سيدي فلان ادعُ الله تعالى في حاجتي فلانة، زاعمًا أنه يعلم الغيب ويسمع كلامه في كل زمان ومكان، ويشفع له في كل حين وآن؛ فهذا شرك صريح، فإن علم الغيب من الصفات المختصة بالله تعالى. وكذا إذا قال عند قبر نبي، أو صالح: يا سيدي فلان، اشف مريضي أو اكشف عني كربتي، وغير ذلك؛ فهو شرك جلي، إذ نداءُ غير الله تعالى طالبًا بذلك دفع شر، أو طلب نفع فيما لا يقدر عليه الغير دعاءٌ، والدعاء عبادة، وعبادة غير الله شرك، وهذا أعم من أن يعتقد فيهم: أنهم مؤثرون بالذات، أو أعطاهم الله تعالى التصرفات في تلك الأمور، أو أنهم أبواب الحاجة إلى الله تعالى، وشفعاؤه، ووسائله، وفيه اعتقاد علم الغيب لذلك المدعو، وهو شرك، نسأل الله الحفظ والعصمة عن الشرك والكفر والضلال) (ينظر: جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية، لـشمس الدين بن محمد بن أشرف بن قيصر الأفغاني).

وقال الإمام العابد الورع النبيه أفضل علماء المتأخرين -كما يراه ابن عابدين الحنفي- الإمام محيي الدين البركوي الحنفي الماتريدي (ت ٩٨١هـ) -صاحب كتاب (الطّريقة المحمّديّة) وهو كتاب في علم السلوك والتصوف والآداب- في رسالته في زيارة القبور: (وأمّا الزِّيارة الشّرعيّة التي أَذِنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها؛ فالمقصود منها شيئان: أحدهما: راجع إلى الزّائر؛ وهي: الاعتبار والاتّعاظ. والثاني: راجع إلى الميّت؛ وهو: أن يُسَلِّم عليه الزّائر، ويدعو له، ولا يطول عهده به؛ فيهجره وينساه، كما أنّه إذا ترك أحدًا من الأحياء تناسه، وإذا زاره فرح بزيارته وسُرَّ بذلك؛ فالميّت أولى به؛ لأنّه قد صار في دار هجر أهلها إخوانهم ومعارفهم؛ فإذا زاره أحد وأهدى إليه هبة من سلام ودعاء؛ ازداد بذلك سروره وفرحه.

وأمّا الزّيارة البدعيّة: فزيارة القبور لأجل الصّلاة عندها، والطّواف بها، وتقبيلها واستلامها، وتعفير الخدود عليها وأخذ تُرابها، ودعاء أصحابها، والاستعانة بهم، وسؤالهم النّصر والرّزق والعافية والولد وقضاء الدّيون، وتفريج الكُربات، وإغاثة اللهفات، وغير ذلك من الحاجات التي كان عُبَّاد الأوثان يسألونها من أوثانهم؛ فليس شيء من ذلك مشروعًا باتّفاق أئمّة المسلمين؛ إذ لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من الصّحابة والتّابعين وسائر أئمّة الدّين؛ بل أصل هذه الزّيارة البدعيّة الشّركيّة مأخوذة من عبادة الأصنام؛ فإنّهم قالوا: الميّت المعظّم على هذا الوجه قربة ومزية عند الله ـ تعالى ـ، لا يزال تأتيته الألطاف من الله ـ تعالى ـ، وتفيض على روحه الخيرات؛ فإذا علّق الزّائر روحه به وأدناه منه؛ فاض من روح المزور على روح الزّائر من تلك الألطاف بواسطتها، كما ينعكس الشّعاع من المرآة الصّافية والماء الصّافي ونحوهما على الجسم المقابل له! ثم قالوا: فتمام الزّيارة أن يتوجّه الزّائر بروحه إلى الميّت ويعكف بهمّته عليه، ويوجه قصده وإقباله إليه، بحيث لا يبقى فيه التفات إلى غيره!

وكلّما كان جمع الهمّة والقلب عليه أعظم كان أقرب إلى انتفاعه به! وقد ذكر هذه الزّيارة على هذا الوجه ابن سينا والفارابي وغيرهما، وصرّح به عُبّاد الكواكب، وقالوا: إذا تعلّقت النّفس النّاطقة بالأرواح العلويّة فاض عليها منها نور؛ ولهذا السّر عُبِدَت الكواكب، واتخذت لها الهياكل، وصُنّفت لها الدعوات واتخذت لها الأصنام... ).  

إلى أن قال: (وهذا بعينه هو الذي أوجب لعباد القبور اتخاذها مساجد، وبناء المساجد عليها، وتعليق الستور عليها، وإيقاد السرج عليها، وإقامة السدنة لها، ودعاء أصحابها، والنذر لهم، وغير ذلك من المنكرات، والله هو الذي بعث رسله وأنزل كتبه لإبطاله وتكفير أصحابه، ولعنهم، وأباح دماءهم وأموالهم وسبي ذراريهم"، قلتُ: وهذا كلام صريح في تقسيم زيارة القبور إلى شرعيّة، وبدعيّة، وليس هذا التقسيم خاص بابن تيمية ومن ورائه الشيخ محمد ابن عبد الوهاب كما يزعم منظري الطرقية المعاصرة، كما أن كلام البركوي الحنفي صريح في أن الاستغاثة بالأموات شرك؛ وأن التبريرات التي تنسج حول جوازها هي من جنس تبريرات عبدة الكواكب وخزعبلات أهل الفلسفة وأئمة الباطل، (وينظر: الكَشْف المُبْدِي لتمويه أبي الحسن السُّبكيّ، تكملة "الصّارم المنكي" لـمحمد بن حسين بن إبراهيم الفقيه).

وقال البركوي أيضًا: (ثم في اتخاذ القبور عيدًا من المفاسد العظيمة ما يغضب لأجله كل مَن كان في قلبه وقار لله تعالى، وغيرة على التوحيد، وتقبيح للشرك، وتهجين للكفر والبدع، ولكن ما لجرح بميت إيلام... ) وقال: (فبدل أهل البدع، والضلال قولًا غير الذي قيل لهم، فإنهم بدلوا الدعاء له -أي: الميت- بدعائه نفسه، أو بالدعاء به، وبدلوا الشفاعة له بالاستشفاع به، وقصدوا بالزيارة التي شرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم -إحسانًا إلى الميت، وإلى الزائر- سؤال الميت، والإقسامَ به على الله تعالى، وخصصوا تلك البقعة بالدعاء الذي هو مخ العبادة، وجعلوا حضورَ القلب وخشوعه عندها أعظمَ منه في المساجد، وأوقات الأسحار... )، وقال: (فإن الشركَ بقبر الرجل الذي يعتقد صلاحه- أقربُ إلى النفوس من الشرك بشجر، أو بحجر... ). 

وللحديث بقية إن شاء الله.