غريزة التَّدَيُّن وحاجة الناس إلى الدِّين (٣)

  • 77

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد ذكرنا في المقال السابق: أن الواجبَ على المخلوق أن يكون عبدًا للخالق سبحانه، وأن تكون عبادته على مراد خالقه لا على هواه، فالله أنزل الكتب وأرسل الرسل ليبينوا للناس طريق العبودية الحق التي تتضمن إثبات الربوبية للخالق الرازق المدبر، وتوحيده بالألوهية في صرف العبادة له وحده، قال تعالى: "وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ"، فكما بيَّنت الآية الغاية من إرسال الرسل، والتي لا تقتصر فقط على إثبات وجود الإله؛ لأن ذلك ثابت بالفطرة، ومؤَيد بالبراهين الكونية، وإنما بيَّنت أيضًا الحق الواجب على العباد لخالقهم، بعدم إشراك غيره معه في ربوبيته "أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا"، وفي ألوهيته "فَاعْبُدُونِ"؛ فهذا هو الطريق الواضح لإشباع غريزة التدين.

والضلال كل الضلال في الانحراف عن هذا التوجيه القرآني، والانحراف عن طريق المرسَلين؛ سواء كان انحرافًا في الجانب الروحي (الاعتقاد) بإقرار الربوبية لغير أو مع الله، أو في الجانب العملي (العبادات) بالابتداع واتباع الهوى، وهذا يوقع صاحبه بين أمرين -كلاهما شر-: بين إفراط، وتفريط في تطبيق أوامر الدِّين.

فالأول: تقوده عاطفة مبنية على فهم خاطئ للنصوص، فينساق خلفها بلا ضابط فيصير متشددًا مغاليًا، فيصل به الأمر إلى التكفير وإباحة الدماء واعتزال طوائف المؤمنين.

والثاني المفرِّط يرى: أن تدينه يكمن في أسرار روحانية كفيلة أن تمنحه رتبة الولاية دون عمل؛ أو يرى أن نصوص الدين تُطبَّق على حسب تفسير كل شخص تبعًا لهواه؛ أو يرى أن إشباع غريزته الدينية تتمثل في زيارة القبور والأضرحة؛ مما يوقعه بعد ذلك في السؤال والتوسل بغير الله، ثم يجني عموم الناس عقبات الفريقين!

قال ابن القيم رحمه الله: "وما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزعتان: إما إلى تفريط وإضاعة، وإما إلى إفراط وغلو".

والغلو والتفريط كلاهما مسبب للآخر، فالغلو سبب في ظهور المضيعين والمفرطين هروبًا من التطبيقات الخاطئة للدين، كما أن التعامل مع أوامر الدين بتفريط وتمييع سبب في ظهور المغالين كرد فعل لضياع أصول الدين، ولن تجد حلًّا لكل هذه الانحرافات إلا في تطبيق هدي النبي محمد صلى الله عليه وسلم الذي قال: "وأحسنَ الهديِ هديُ محمَّدٍ"، وقال أيضًا: "والذي نفسي بيدِه، لقد جئتُكم بها بيضاءَ نقيَّةً".

وإن التطرف والغلو والتمييع والتفريط كلاهما داء واحد يتغلغل في جسد الأمة فيصيبها بالخور والضعف، ولا نجاة لنا إلا بالتمسك بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: "قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ . يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ".

ومِن رحمة الله بعباده: أن هيَّأ لهم قبول طريق الإيمان في نفوسهم؛ إذ أخذ منهم الميثاق حين استخرجهم مِن ظهر آدم وقررهم بالتوحيد، قال تعالى: "وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ"، ثم أخرجهم إلى الدنيا مفطورين على ذلك كما قال سبحانه في الحديث القدسي: "وإني خلقت عبادي كلهم حنفاء"، ثم مَيَّزهم بالعقل ليحسنوا عبادته، ويقروا بوحدانيته، ثم بث لهم آيات توحيده في الآفاق وفي أنفسهم، وهي آيات متعددة نبسط لها مقالًا في القادم بإذن الله.

 وفقنا الله وإياكم لما فيه الخير والصلاح.