عاجل
  • الرئيسية
  • المقالات
  • الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (80) الإسلام دين إبراهيم خليل الرحمن دون اليهودية والنصرانية والشِّرْك (8)

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (80) الإسلام دين إبراهيم خليل الرحمن دون اليهودية والنصرانية والشِّرْك (8)

  • 104

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقال الله تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا) (النساء: 125).

الفائدة السابعة: دَلَّ قولُه تعالى: (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا) على إثبات الصفات لله سبحانه وتعالى، والخلة هي المحبة العظيمة الخالصة، وهي أخص مِن المحبة المطلقة، والله يحب المتقين، ويحب المؤمنين، ويحب المحسنين، ويحب الصابرين، ويحب الذين يحبونه؛ أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، يجاهدون في سبيل الله، ولا يخافون لومة لائِم، ويحب مَن أدَّى الفرائض وهو مؤمن متَّقٍ، ثم واظب على النوافل حتى يصل إلى درجة المحبوبية الخاصة بأوليائه الذين مَن عاداهم فقد آذنه الله بالحرب، وهم الذين آمنوا وكانوا يتقون.

أما الخُلَّة فهي: محبة خالصة كاملة مِن كلِّ وجه خاصة قد جعلها الله لنبيه محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ولنبيه إبراهيم صلى الله عليه وسلم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته قبل أن يموت بخمس: (إِنِّي أَبْرَأُ إِلَى اللهِ أَنْ يَكُونَ لِي مِنْكُمْ خَلِيلٌ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى قَدِ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا ‌كَمَا ‌اتَّخَذَ ‌إِبْرَاهِيمَ ‌خَلِيلًا، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِي خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا. أَلَا وَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ؛ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، إِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ) (رواه مسلم).

وفي الصحيح في حديث الشفاعة الطويل في الإراحة مِن هول الموقف، وفي استفتاح باب الجنة فيقول آدم: (اذْهَبُوا إِلَى ابْنِي إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ اللهِ، قَالَ: فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ: لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ، إِنَّمَا كُنْتُ ‌خَلِيلًا ‌مِنْ ‌وَرَاءَ ‌وَرَاءَ) (رواه مسلم)؛ يعني أن خلة النبي صلى الله عليه وسلم عند ربِّه أقرب وأعظم من خلته هو، وكل هذه الروايات تدل على إثبات صفة الخلة لله سبحانه؛ فهو الذي اتخذ إبراهيم خليلًا، وليس فقط أن إبراهيم اتخذه خليلًا فتكون مِن صفة العبد، بل هي من صفة الرب -عز وجل-.

وكما ذكرنا أنها المحبة الخاصة الخالصة، ولم يرد تأويل الخلة ولا المحبة بالإرادة كما يقوله متأخرو الأشاعرة المؤولون للصفات غير الصفات السبعة الثابتة عندهم بطريق العقل؛ لأنهم سَلَكوا طريقة التأويل التي تؤدي إلى التعطيل.

ولقد سمع الصحابة -رضي الله عنهم- من الرسول -صلى الله عليه وسلم- هذه الآيات وهذه الأحاديث، ولم يقولوا له قط: هل تجوز الخلة على الله وهي صفة نقص؟!

أو كيف يتخذ الله إنسان خليلًا وهذا يقتضي التشبيه؛ لأن الخلة هي المحبة التي تتخلل شغاف القلب؛ فهذا يستلزم التشبيه والتجسيم؟!

ولا قالوا له مرة واحدة: إنها تستلزم التجسيم، ولا هي ولا غيرها، وهو محال على الله، وإننا لو قلنا ذلك؛ لكنا حشوة مجسِّمة كفارًا؟!

ولا قالوا: كيف نثبِت لله سبحانه صفات وأفعال غير الصفات السبع التي يقبلها العقل دون غيرها -وهي: الحياة، والعلم، والقدرة والإرادة، والسمع والبصر، والكلام-؟!

ولا نشك أن كلَّ أشعري يقول بهذا الكلام المنكر، والمعتزلة والجهمية قبلهم يوقنون: أن هذا لم يقع من الصحابة، بل يجزمون أن الصحابة ما خاضوا بهذه الطريقة، ولا بيَّن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن هذه الصفة -الخلة وكذا المحبة- تقتضي النقص أو التشبيه أو التجسيم، ويجب نفيها أو تأويلها إلى أحد الصفات السبعة، لا والله ما حدث ذلك قط!

ومَن قالوا بذلك لا ينسبون كلامهم إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ولا إلى أحدٍ مِن أصحابه، ولا إلى التابعين، ولا أئمة تابعيهم، وإنما ينسبون ذلك الكلام إلى الجعد بن درهم، والجهم بن صفوان، وواصل بن عطاء، وبشر المريسي أئمة الجهمية والمعتزلة، وكفى بهذا حجة في إبطال هذا المذهب المنحرف عن طريقة القرون الثلاثة الخيرية، وليحذروا من أن يحشروا مع هؤلاء المبتدعين؛ فإن المرء مع مَن أحب، كما قد تواتر عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.

وإذا علمنا أن حقيقة هذه المذاهب المبنية على عِلْم الكلام المعدَّل من الفلسفة؛ إنما صنعه واخترعه فلاسفة اليونان، ومناطقة الوثنيون الكفار؛ علمنا أنه لا يجوز لمسلمٍ أن يقبله، ولا أن يتبعه؛ فضلًا أن يوالي ويعادي عليه، ويزعم أن هذا مذهب أهل السنة والجماعة دون السلف الصالح مِن الصحابة ومَن تبعهم.

ولقد فهم الصحابة هذه النصوص بمعانيها في اللغة اللائقة بالله -عز وجل-، وعلموا يقينًا أن كيفيتها في حقه سبحانه ليس ككيفيتها في حقِّ المخلوقين؛ لعلمهم بقوله -تعالى-: (‌لَيْسَ ‌كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الشورى: 11)، وقوله -عز وجل-: (‌قُلْ ‌هُوَ ‌اللَّهُ ‌أَحَدٌ . اللَّهُ الصَّمَدُ . لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ . وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) (الإخلاص: 1-4).

فالحقيقة التي هي الكيفية على التفصيل لا يعلمها إلا الله الذي هو أعلم بنفسه، وأعلم بغيره، ورسوله -صلى الله عليه وسلم- أعلم الخلق به، وهو لم يتكلَّم على كيفية، ولم ينفِ المعنى قط، ولم يقل: هذه حروف كالكلام الأعجمي إياكم أن تفهموا له معنى خلاف معناه اللغوي العربي الذي لا يحتاج إلى تعريفات وحدود، وهي التي أدَّت إلى اعتقاد التشبيه على نصوص الكتاب والسُّنة، حتى قال قائلهم: إن الأخذَ بظواهر نصوص الكتاب والسنة من أصول الكفر! نعوذ بالله من الخذلان، بل يجب أن يُقال في هذه النصوص المُثبِتَة للخلة والمحبة وغيرها: الخلة والمحبة معلومة، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عن الكيفية بدعة.

وتأمل عجيب حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يموت بخمس، وهو من أدلة نبوته ومعجزاته؛ إذ أخبر بما يقع بعده محذِّرًا أمته من هذه البدع -وقد رواه مسلم في صحيحه-.

وهو قد حَذَّر الأمةَ مِن أكثر ثلاث فِرَق تنتشِر ضلالاتها في الأمة مِن بعده -صلى الله عليه وسلم-، وهي:

- الرافضة الذين يبغضون أبا بكر ويكفِّرونه، وقد بيَّن فضله فقال: (إِنَّهُ لَيْسَ مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ أَمَنَّ عَلَيَّ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ مِنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي قُحَافَةَ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنَ النَّاسِ خَلِيلًا، لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، وَلَكِنْ خُلَّةُ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ، سُدُّوا عَنِّي ‌كُلَّ ‌خَوْخَةٍ ‌فِي هَذَا الْمَسْجِدِ غَيْرَ خَوْخَةِ أَبِي بَكْرٍ) (رواه البخاري).

- وكذلك رَدَّ على الفرقة الثانية المعطِّلة الذين ينفون الصفات والأفعال الإلهية: فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى قَدِ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا ‌كَمَا ‌اتَّخَذَ ‌إِبْرَاهِيمَ ‌خَلِيلًا).

- وأما الفرقة الثالثة: فهم غلاة الصوفية الذين يتخذون قبورَ الأنبياء والصالحين مساجد اتِّباعًا لأهل الكتاب، بل ويتقرَّبون بذلك إلى الله، عكس ما نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم لما يعلم -صلى الله عليه وسلم- مِن خطر الغلو الذي يؤدي إلى اعتقاد ربوبيتهم، بل وإلهيتهم بصرف العبادة لهم، مع علم هؤلاء الغلاة: أن مِن هؤلاء المقبورين مَن كان لا يصلي الجمعة، ولا الجماعة، بل ولا يصلي أصلًا؛ مع بقائه على ولايته ووقوعه في الفناء واتحاده بذات الرب، وأنه قد سقط عنه التكليف، ويسمون ذلك جنون الروح، بل يجعلون ارتكاب المنكرات من الكرامات كبيع الحشيش على باب المسجد "الأزهر"، وفعل الفاحشة أمام تلامذته حتى تركوه إلا واحدًا أعدَّ له ماء الغسل! نعوذ بالله.

بل يجوزون ادِّعاء الألوهية منهم، ويقولون: لا يجوز الإنكار عليهم؛ لأنهم في مقام النحو، فيجوزون أن يقول الولي: سبحاني سبحاني، ما أعظم شأني!

بل ويرون الحلاج الذي ادَّعى الحلول، وقُتِل على الزندقة والردة -بإجماع علماء زمانه- قد قُتِل بلسان الشرع، لكنه محمود بلسان الحق! وكأن الشرع قد جاء بغير الحق، وهذا قول يخرج صاحبه من الملة، ومخالف للمعلوم من الدِّين بالضرورة: مِن أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد جاء بالحق، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ‌قَدْ ‌جَاءَكُمُ ‌الرَّسُولُ ‌بِالْحَقِّ ‌مِنْ ‌رَبِّكُمْ) (النساء: 170)، وهذا على عمومه وإطلاقه بإجماع المسلمين في الظاهر والباطن وفي الحقيقة والشريعة، وليس في الدِّين باطل يخالِف الظاهر، ولا حقيقة تخالف الشريعة، بل الحق كله قد جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ حقيقة وشريعة، ومَن أعرض عمَّا جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى تُرهات وخزعبلات الزنادقة من الصوفية الحلولية والاتحادية؛ فهو لاحقٌ بهم.

نعوذ بالله مِن حالهم، ونسأله -سبحانه- أن يجعلنا مع النبيين والصديقين، والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.

وللحديث بقية إن شاء الله.