حرب العاشر من رمضان كأنك تراها (2)

  • 93

يوم العاشر من رمضان (٢)

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛   

فبعد مضي نصف قرن هجري من الزمان على حرب العاشر من رمضان 1393 إلى رمضان 1443 هـ - السادس من أكتوبر، رَحَل -أو يكاد- مَن حضروا هذه الحرب أو عاصروها؛ فلزم علينا أن نذكِّر الأجيال الجديدة بهذه الحرب المجيدة، وما قدَّم المصريون فيها من تضحيات وما بذلوه من جدٍّ واجتهاد في قوة تحمُّل وصبر، وإخلاص وصدق حقَّقوا به مجدًا كبيرًا في ظروف أسوأ وأصعب بكثيرٍ مِن الظروف التي نعاني منها حاليًا؛ إنها روح العاشر من رمضان - السادس من أكتوبر التي نفتقدها الآن، ونحن أحوج ما نكون إليها.  

مِن عوامل انتصار حرب العاشر من رمضان: عامل مبادأة العدو بالقتال، على غير ما تعود عليه العدو من أن يبدأ هو بالقتال، وكذلك مفاجأة العدو بالإعداد الجيد واختيار توقيت لبدء القتال لم يتوقعه العدو، ولإدراك أهمية ذلك نسوق لك بعضًا مما ذكره العدو الإسرائيلي نفسه عن أثر المفاجأة بالحرب في يوم العاشر من رمضان - السادس من أكتوبر، كما جاء في مذكرات "موشى دايان" عن هذا اليوم؛ لتكتمل الصورة بعد أن استعرضنا ما كانت عليه الأوضاع على الجبهة المصرية في ذلك اليوم.

وموشى دايان هو: وزير الدفاع في الحكومة الإسرائيلية التي كانت ترأسها عند وقوع الحرب جولدا مائير، وهو الذي اكتوى بنار هذه الحرب، فجدير أن نطلع على ما ذكره عنها:

يذكر دايان أن الهجوم المصري جاء مفاجأة وإن لم يكن أمرًا غير متوقع، فتجدد القتال كان متوقعًا عاجلًا أو آجلًا، ولكنه جاء في يوم عيد الغفران (يوم كيبور) عند اليهود، وفي وقت كانت قوات العدو مستعدة ولكن لم تكن معبأة وموزعة كما ينبغي.

ويذكر دايان: أنه كانت هناك خطة معدة مسبقًا للتعامل مع أي هجوم شامل مصري لعبور القناة، أو سوري لاستعادة مرتفعات الجولان، وتقدر تكلفتها بـ 17 مليون دولار، وقد أرسلت تفاصيلها من قبل إلى قيادتي الجبهة الشمالية (في مواجهة سوريا) والجبهة الجنوبية (في مواجهة مصر)، والخطة مبنية على وصول الإنذار المبكر ببدء الحرب قبل 24 ساعة على الأقل حتى تتم تعبئة قوات الاحتياط وإرسالها في الوقت المناسب لاندلاع القتال.

وقال دايان معلقًا على هذه النقطة: (ويجب أن أضيف هنا: أن قوات العدو -يعني مصر وسوريا- شنَّت هجومها بكفاءة أكبر مما وضعناه لها في حسابنا عند وضع هذه الخطط)، وقال: (إن كلًّا من المخابرات الأمريكية ومخابراتنا توصلتا إلى أن مصرو سوريا لا تعدان للحرب، وفسرتا التحركات العسكرية الواسعة على الجبهة المصرية على أنها مناورات وليست استعدادًا لغزو، ومع ذلك فلم نكن مرتاحين، وخاصة فيما يتعلق بالجبهة السورية).

ويبيِّن دايان في موضع آخر من مذكراته سبب القلق من الجبهة السورية أكثر من الجبهة المصرية فيقول: (ولو أننا أخذنا بهجوم على الجبهة المصرية واضطررنا للتراجع إلى الخط الثاني -يعني خط الدفاع الثاني الموضوع في خطة الحرب داخل سيناء-، فإن الأمر لم يكن ليشكل لنا كارثة، فالأمر لا يعدو كونه انسحابًا إلى خط آخر في صحراء واسعة، أما بالنسبة للجبهة الشمالية -أي الجبهة السورية- فالوضع مختلف، فإن أي انسحاب هناك قد يؤدي إلى إلحاق ضرر بليغ بمستعمراتنا في الجولان (يعني المستوطنات)، وقد ينقل الجبهة (يريد جبهة القتال) إلى مناطقنا السكنية في الجليل الأعلى ووادي الأردن، ولم يكن فيها -على العكس من قناة السويس في الجبهة الجنوبية- أية عوائق طوبوغرافية أو موانع؛ هذا بالإضافة إلى شبكة الصواريخ المضادة للطائرات التي بلغت حدًّا من الكثافة والتعقيد إلى درجة أنها كانت تغطي كل الجانب الإسرائيلي في مرتفعات الجولان).

وأما التحركات والمناورات العسكرية التي كانت تقوم بها مصر غرب القناة من وقتٍ لآخر، ولم يكن يعقبها بدء حرب؛ فقد كانت من الخداع الإستراتيجي الذي يمكِّن مصر في وقتٍ ما أن يعقب هذه التحركات والمناورات بدء الحرب على غرة، وهذا ما حدث.

ويعلِّق على ذلك دايان بقوله: (ولم نكن نستطيع تعبئة قواتنا لفترة طويلة وإلا أضر بالدولة، وذلك في حد ذاته يمثِّل واحدًا من أوجه مشكلتنا الرئيسة، فنحن دولة صغيرة يقل تعدادها عن الثلاثة ملايين من اليهود تحيط بهم عشرات الملايين من العرب).

ويذكر دايان: إنه في الاجتماع الأسبوعي لرئاسة الأركان يوم 5 أكتوبر 1973 -أي: قبل بدء الحرب بيوم واحد- صدر القرار برفع حالة الطوارئ القصوى في الجيش والطيران؛ إذ كانت هناك معلومات عن تعزيزات وإمدادات على الجبهتين: المصرية والسورية، ومعلومات عن مغادرة عائلات المستشارين الروس من سوريا بما يعني التخوف من أمر خطير سيحدث، بينما أكَّد رئيس المخابرات الإسرائيلي وقتها: أن الهجوم ليس واردًا ووافقه في ذلك رئيس الأركان، وكان التقييم الأمريكي أن لا مصر ولا سوريا تفكران في هجوم قريب، وكان رأي دايان أن كلًّا من مصر وسوريا في وضع يمكنهما من القيام بهجوم خلال ساعات.

ويضيف دايان قائلًا: (ومع أننا لم نكن غافلين عن احتمال نشوب الحرب، فإن حرب كيبور اشتعلت في اليوم الوحيد الذي لم نكن نتوقعها فيه، وجاءت في يوم الغفران، وهو اليوم الوحيد الذي يقضيه كل اليهود في أنحاء العالم في الصوم والعبادة، وفي إسرائيل كان العمل متوقفًا والشوارع خالية؛ لا سيارة فيه ولا مشاة).

السرية التامة والتمويه في الإعداد والخداع الإستراتيجي قبل التنفيذ:

كانت القيادة المصرية تعلم تمامًا أن أي تحركات عسكرية أو استعدادات على طول الجبهة غرب القناة هي مكشوفة للعدو تمامًا من خلال صور الأقمار الصناعية، وأجهزة التنصت، ووسائل المراقبة والتجسس الحديثة التي تمتلكها أمريكا وإسرائيل، ومن خلال نقاط ملاحظة العدو شرق القناة، إلى جانب أجهزة الاستخبار الإسرائيلية والأمريكية.

ونهج العدو أنه يقوم باستدعاء وتعبئة قواته الاحتياطية وقوامها ما بين 100 - 120 ألف مقاتل قبل اندلاع الحرب ما بين 24 - 48 ساعة، وبالتالي تكون هذه القوات مشاركة بكل معداتها وأسلحتها في المعركة من بدايتها إلى جانب القوات الرئيسية الموجودة من قبل جاهزة ومعبأة وموزعة على جبهة القتال بما يضمن لإسرائيل في نهاية المعركة التفوق والنصر العسكري مهما كانت قوة العدو المواجه لها، بل يمكن للعدو إذا تأكد من النية الجادة في الهجوم عليه توجيه ضربة إجهاض استباقية لهذا الهجوم باستخدام سلاح الطيران؛ ولهذا عمدت مصر لشهور وأسابيع طويلة قبل المعركة إلى اعتماد السرية التامة واللجوء إلى التخفي والتمويه، والقيام بخداع إستراتيجي للعدو.

وتضليل العدو وخداعه يشمل إجراءات متعددة هدفها تغذية العدو بالمعلومات الزائفة التي قد يتخللها بعض المعلومات الصحيحة القليلة غير المؤثرة، بحيث يتعذر معها معرفة المعلومات الزائفة من المعلومات الصحيحة، مما يوقع العدو في التقدير الخاطئ للموقف، واتخاذه القرارات الخاطئة.

اعتماد السرية التامة:

 تمت أخطر مرحلة وهي حشد القوات من فِرَق وألوية مشاة ولواءين مدرعين، وإدخال الكباري ومعدات وأسلحة العبور الثقيلة في سرية وتمويه، مِن يوم الأربعاء السابع من رمضان - الثالث من أكتوبر تحت ستار المشروع التدريبي المعلن عنه.

وفي يوم الجمعة التاسع من رمضان الخامس من أكتوبر، ووفقًا للجدول الموضوع الذي ينظِّم مواعيد إبلاغ الحرب للرتب المختلفة تم إبلاغ قادة الجيشين: الثاني والثالث، وقادة التشكيلات بساعة الصفر بنظام يضمن أقصى درجات السرية والوقت المناسب لعمل الترتيبات النهائية على كافة المستويات في مختلف الأسلحة مع الالتزام التام بأقصى درجات السرية في تنفيذ التعليمات.

ومع شروق شمس يوم العاشر من رمضان تم إبلاغ قادة السرايا والفصائل بساعة الصفر، وتم ضبط ساعات جميع القادة والرتب على دقات الساعة الثامنة من ساعة جامعة القاهرة عبر الإذاعة المصرية، ومن هذا التوقيت أصبحت كل مراكز القيادة على مستوى القيادة العامة مناطق محظورة لا يسمح بدخولها أو الخروج منها.

ورغم الهدوء الظاهر على الجبهة كانت القيادة العامة قد تلقت من قادة القوات تمام الاستعداد لتنفيذ المهام، وكان آخرها تمام قطع البحرية الموجودة في باب المندب، والتي وصلت إليه مساء 9 رمضان 5 أكتوبر.

وكان السادات في قصر الطاهرة الذي تم إعداده كمركز لقيادة الحرب، وتم تجهيزه بأحدث وسائل الاتصال والتكنولوجيا حيث تابع آخر أخبار الإعداد للمعركة، وللاطمئنان على ما يتم الإبلاغ عنه أولًا بأول من تحركات للعدو، وهل اكتشف نية الهجوم واستعد له أم لا، وهل هناك تحركات لتوجيه ضربة إجهاض استباقية لقواتنا؟

كان الشيء المُطمئِن وقتها: أن العدو ومع اقتراب ساعة الصفر لم يعلن عن التعبئة العامة، وكان الشاذلي قد توجَّه صباح العاشر من رمضان سرًّا إلى الجبهة واجتمع مع قائد الجيش الثالث ثم مع قائد الجيش الثاني لمراجعة خطة المعركة وتذليل أي عقبات وشد الأزر، ثم عاد إلى القاهرة ليُطمئِن القيادة السياسية إلى أن كل الأمور على الجبهة تسير وَفْقًا لما هو مخطط له.

تم إعلام المقاتلين على الجبهة -وعددهم قرابة نصف المليون- في الساعة الثانية عشرة ظهرًا بساعة الصفر التي ستكون بعد ساعتين.

وكان تأخير إبلاغ الجنود بساعة الصفر خشية أي ردود فعل حماسية تكشف نوايانا، وخلال الفترة من الثانية عشرة ظهرًا وحتى الثانية ظهرًا، كانت قمة السيطرة على الموقف؛ فقد كانت التعليمات الصارمة أنه بمجرد ارتداء المقاتل ملابس الميدان لا يغادر خندقه إلى أن تبدأ الضربة الجوية، أي: ألا يظهر أي مقاتل بملابس الميدان على الجبهة، وألا يتم تحريك أي معدات أو أسلحة حتى تبدأ المدفعية في التمهيد النيراني مع تلقين المقاتلين المهام الخاصة بكلٍّ منهم، والتشديد على قادة وضباط الكتائب والسرايا بالسيطرة على مشاعر الجنود، كما تم رفع خرائط مهام المشروع التدريبي، ووضع خرائط مهام المعركة بدلًا منها.

وكان وضع التصور الخاص بتوقيت العبور قد تم سرًّا من مجموعة مختارة بعناية دون الاستعانة بأي أطراف خارجية، وكان يتم رسم الخرائط وكتابة التصورات يدويًّا مع التشديد على إنجاز العمل بوسائل غير تقنية، وأن يتم تسليمها يدويًّا حتى لا يتم تعقب أي مراسلات منها من قِبَل العدو أو أجهزة استخباراته، والأجهزة الاستخبارية العالمية المتعاونة معه، وكانت التعليمات تبدأ بعددٍ محدودٍ جدًّا من الأفراد، ثم تتسع تدريجيًّا طبقًا لتطور المهام القتالية.

الإخفاء والتمويه:

مِن أمثلة ما كان من ذلك:

- الإعلان عن فتح باب العمرة في رمضان للراغبين من الضباط وضباط الصف، والجنود والعاملين المدنيين بالقوات المسلحة، وأعلن عن تنظيم ثلاث رحلات واستخراج تأشيراتها من السفارة السعودية بالفعل.

- في يوليو 1972 تم تسريح 30 ألف مجند في الجيش، كان معظمهم من خارج التشكيلات المقاتلة التي يمكن أن تشارك في القتال، مما أعطى انطباعًا بعدم التفكير في الحرب قريبًا.

- تم نقل ورش تصليح إلى قرب القناة وإلحاق دبابات ومركبات بها بدعوى حاجتها للإصلاح والصيانة، ثم تحولت تلك الورش إلى نقط انطلاق عند بدء العمليات.

- كما تم وضع هياكل لأسلحة ومعدات في مرابض المدافع وقواعد الصواريخ للتضليل البصري، ولكي ترصدها الأقمار الصناعية ومخابرات العدو، ثم يتم استبدالها بالأسلحة الحقيقية المخبأة بعد ذلك.

- التوسع في إنشاء الأهداف الخداعية، وإقامة مواقع هيكلية تحاكي القوات الحقيقية، مع تحريك وإعادة نشر قواتنا ومعداتنا بكيفية تغذي مراكز الاستقبال الأرضية للعدو بصور جوية تجعله يستنتج استنتاجات غير حقيقية عن توجه قواتنا على الجبهة. 

- تم الترويج عن طريق الإعلام المصري للرأي العام الداخلي في مصر وعن طريق وزارة الخارجية للرأي العام الخارجي، أن مصر غير قادرة على خوض حرب تحرير، وأنها لا تمانع في قبول مفاوضة العدو حول الحل السلمي.

- تم تحييد دور الملحقين العسكريين والضباط بالسفارات الأجنبية بوضعهم تحت المراقبة الشديدة لمنع وصولهم لأي معلومات تمس السرية المتعلقة بالاستعداد للحرب.

- طلب وزير الخارجية المصري في زيارة له للنمسا قبل الحرب بأيام من مستشار النمسا إبلاغ جولدا مائير رئيسة الحكومة الإسرائيلية التي كانت تزور النمسا في ذلك الوقت، رسالة من السادات مفادها: أن مصر تتطلع إلى إقرار السلام في الشرق الأوسط.

- الإعلان عن جولة مرتقبة لرئيس الجمهورية يزور فيها بعض دول عدم الانحياز خلال شهر نوفمبر 1973، مع قيام أحد كبار العسكريين بزيارة لليبيا في توقيت متزامن مع تدريبات الجيش النهائية، والإعلان رسميًّا عن استقبال وزير الدفاع الروماني في مصر يوم 8 أكتوبر، بينما كان وزير الخارجية مرتبطًا باجتماع في الأمم المتحدة يتزامن مع وقت المعركة.

- وقد أعلن رسميًّا عن الإعداد لاستقبال الأميرة الإنجليزية مارجريت أخت ملكة بريطانيا التي كانت ستزور مصر في السابع من أكتوبر.

الخداع الإستراتيجي:

- بدأت مصر تطبيق خداع إستراتيجي طويل الأمد للعدو قبل الاستعداد النهائي للمعركة؛ لإيهام العدو بعدم وجود نية لمعركة التحرير، بل وعدم القدرة عليها؛ لحمل العدو بعد الاقتناع بذلك على التراخي في القيام بإجراءات قوية لصدِّ أي هجوم مصري شامل يتم مفاجأة العدو به.

- عمدت مصر إلى إعلان التعبئة العامة ومناورات أكثر من مرة، ويتم فيها بالطبع رفع درجة الاستعداد إلى المرحلة القصوى تحت ستار المشروع التدريبي، كان آخرها: إعلان التعبئة العامة في منتصف شهر سبتمبر 1973 ورفع حالة الاستعداد إلى أقصاها في الخامس من رمضان الأول من أكتوبر.

وقد سبقت هذه المرة ثلاث مرات: كانت الأولي في خريف 1971 ولم تشهد اندلاع حرب، والثانية كانت في خريف 1972 ولم تشهد اندلاع حرب، وكانت الثالثة في ربيع 1973 والتي أخذها العدو كالعادة مأخذ الجد وأعلن عن تعبئة جزئية للجيش، ولكنها لم تشهد أيضًا اندلاع حرب؛ مما حمَّل الحكومة الإسرائيلية أعباء كبيرة في تطبيق خطة الدخول في حرب شاملة مع مصر، ثم كانت هذه التعبئة الأخيرة في خريف سبتمبر 1973 والتي شهدت وقوع الحرب بالفعل، لم يتعامل العدو مع الأمر هذه المرة بالجدية المطلوبة تحسبًا لتحمل تكاليف أخرى تعد بمنزلة خسائر لإسرائيل؛ خاصة في وجود دلائل تشير إلى أن هذه التعبئة وما صحبها من تحركات هي مشروع للتدريب، ولا توجد في الظاهر أي نية جادة للحرب، وهذا الذي انطلى على المخابرات الإسرائيلية والأمريكية معًا، واطمأنت إليه القيادات العسكرية في الجيش الإسرائيلي، ومال إليه المسئولون في الحكومة الإسرائيلية.

- تم تحريك لواء مظلات بكامل عتاده نهارًا من القناة إلى منطقة قفط في محافظة قنا في قلب الصعيد على متن أربعة قطارات تجر خلفها عربات بضاعة مسطحة مكشوفة مرئية للجميع لضمان رصدها، ثم صدرت التعليمات للواء بالعودة سرًّا مرة أخرى ليلًا في عربات مغلقة إلى قاعدته وكأنه لم يخرج منها، وشارك بعدها في المعركة (ذكره الكاتب الراحل إبراهيم حجازي في مقاله: (حرب أكتوبر بدأت في سبتمبر) جريدة الأهرام عدد الجمعة الأسبوعي 25 سبتمبر 2020، ص 15).

- جاءت التحركات العسكرية على الجبهة المصرية في التعبئة الأخيرة شاملة لكلِّ الوحدات وفي كل الأماكن بما يفقد عند رصدها القدرة على تحليل ما يحدث، فهي تحركات لا دلالات وتفسير لها، ولا تصب ولا تظهر النية الجادة في دخول حرب شاملة ضد إسرائيل. 

- لتجهيز وتوفير مستشفيات إضافية لاستقبال الأعداد المتوقعة من المصابين والجرحى العسكريين أثناء الحرب، تم إخلاء مستشفى الدمرداش، وعدة مستشفيات أخرى تحت دعاوى إصابة هذه المستشفيات بالتيتانوس، وبالتالي حاجتها الضرورية إلى الإخلاء والتطهير.

- كانت الأوامر المشددة للقوات الموجودة على الجبهة بمزاولة أعمالها اليومية الطبيعية، فالشركات المدنية التي تعمل في إنشاء مصاطب للدبابات وتقوم بتعلية الساتر الرملي الدفاعي غرب القناة في مواجهة العدو تواصل أعمالها المعتادة بدون تغيير، وهناك جنود يمارسون أعمالهم اليومية المعتادة جهرًا أمام نقاط الملاحظة للعدو مما يعطي انطباعًا للعدو بأنه لا نية للهجوم.

- غادرت قطع بحرية في يوم الثلاثاء 6 رمضان 2 أكتوبر قواعدها في البحر الأبيض والبحر الأحمر لتنفيذ مهامها في قطع خطوط مواصلات العدو البحرية والتحكم في باب المندب، وكان التحرك لبعضها تحت ستار التوجه لإجراء عمرات لها في دول صديقة في جنوب شرق آسيا، وقد تم سرًّا تسليم قائد كل قطعة بحرية مظروفًا مغلقًا مع تحديد يوم ووقت فتحه على أن تنفذ كل التعليمات الموجودة بالظرف بدقة بعد العلم بها، وكانت توقيتات فتح هذه الأظرف هي نفس توقيتات إعلام باقي القادة على جبهة القتال بساعة الصفر.

- إمعانًا في الخداع تم استخدام اللغة النوبية كشفرة للاتصالات حيث يتعذَّر تمامًا على العدو التعرُّف عليها أو فك رموزها، حيث تم تعيين جندي نوبي في كل وحدة إشارة ليستخدم لغته النوبية في اتصالات الوحدات بعضها ببعض.  

- كان اختيار الساعة الثانية ظهرًا لبدء الحرب والعبور، مخالفًا لكل التوقعات المعتادة بأن تكون بداية أي حرب؛ إما مع غروب الشمس مساءً أو شروق الشمس صباحًا.

ولكن تم اختيار ظهر العاشر من رمضان - السادس من أكتوبر لاعتباراتٍ عديدةٍ، منها:

- توقف الحياة اليومية والبث الإذاعي والتلفزيوني في إسرائيل في هذا اليوم للاحتفال بعيد الغفران.

- كون مياه القناة في حالة جزر يسهل معها العبور.

- كون الرياح في هذا اليوم هادئة خالية من العواصف الرملية.

- كون الشمس في الثانية ظهرًا تميل إلى جهة الغروب، فتكون في ظهر قواتنا بينما تكون في مواجهة أعين قوات العدو ومدفعيته.

- كون بناء الكباري والمعديات يحتاج لفترةٍ لا تقل عن ست ساعات، فالعبور ظهرًا يعني إعداد الكباري مع دخول الليل مما يسهِّل عبور الدبابات والمركبات والأسلحة الثقيلة عليها ليلًا، فتكون على أرض سيناء، وتشارك في الحرب صباح يوم الأحد الحادي عشر من رمضان السابع من أكتوبر. 

وللحديث بقية إن شاء الله.