صيانة جناب التوحيد

  • 112

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يَقُمْ منه: "لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ"، قالت عائشة رضي الله عنها: "وَلَوْلا ذَلِكَ أُبْرِزَ قَبْرُهُ؛ غَيْرَ أَنَّهُ خُشِيَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا".

والاتخاذ المذكور في الحديث ليس له معنى واحد كما يدَّعي البعض؛ ألا وهو الصلاة على عين القبر فقط بغرض أن يبيِّن أنه لا أحد يفعله؛ فهذا إما خداع متعمَّد لإيهام السامعين بتشدد أهل السنة، أو جهل مركَّب يحتاج إلى رحمةٍ مِن الله!

فـ"الاتخاذ" في قوله صلى الله عليه وسلم: "اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ" له ثلاثة معانٍ يهدم كلُّ معنى منها أصل البدعة التي يحاول القوم أن يحيوها مرة أخرى عن طريق مثل هذا التلبيس.

- المعنى الأول للاتخاذ: الصلاة على القبور، بمعنى: السجود عليها

- المعنى الثاني: السجود إليها واستقبالها بالصلاة والدعاء.

- المعنى الثالث: بناء المساجد عليها، وقصد الصلاة فيها.

وبكل واحدٍ من هذه المعاني جاءت نصوص صريحة عن سيد الأنبياء صلى الله عليه وسلم، وقال بها طائفة من العلماء، وذلك على النحو التالي:

أما المعنى الأول فيشهد له أحاديث:

الأول: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يبنى على القبور، أو يقعد عليها، أو يُصَلَّى عليها".

الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تصلوا إلى قبر، ولا تصلوا على قبر".

الثالث: عن عمرو بن دينار -وسئل عن الصلاة وسط القبور- قال: ذُكِر لي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كانت بنو إسرائيل اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد؛ فلعنهم الله تعالى".

ومن أقوال أهل العلم:

- قال ابن حجر الهيتمي: "واتخاذ القبر مسجدًا معناه: الصلاة عليه، أو إليه"؛ فهذا نصٌ منه على أنه يفهم الاتخاذ المذكور شاملًا لمعنيين، أحدهما: الصلاة على القبر.

- وقال الصنعاني: "واتخاذ القبور مساجد أعم مِن أن يكون بمعنى الصلاة إليها، أو بمعنى الصلاة عليها... "؛ يعني أنه يعم المعنيين كليهما، ويحتمل أنه أراد المعاني الثلاثة، وهو الذي فهمه الإمام الشافعي رحمه الله، وسيأتي نص كلامه في ذلك.

أما المعنى الثاني فيشهد له:

حديث أنس رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة إلى القبور".

- قال المناوي في "فيض القدير" -حيث شرح حديث أنس هذا-: "أي: اتخذوها جهة قبلتهم، مع اعتقادهم الباطل، وأن اتخاذها مساجد لازم لاتخاذ المساجد عليها كعكسه، وهذا بيَّن به سبب لعنهم؛ لما فيه من المغالاة في التعظيم... ".

- وقال القاضي -يعني البيضاوي-: "لما كانت اليهود يسجدون لقبور أنبيائهم تعظيمًا لشأنهم، ويجعلونها قبلة، ويتوجهون في الصلاة نحوها، فاتخذوها أوثانًا؛ لعنهم الله، ومنع المسلمين عن مثل ذلك ونهاهم عنه... ".

وهذا معنى قد جاء النهي الصريح عنه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها"؛ قال الشيخ علي القاري -معللًا النهي-: "لما فيه من التعظيم البالغ كأنه من مرتبة المعبود، ولو كان هذا التعظيم حقيقة للقبر أو لصاحبه لكفر المعظِّم، فالتشبه به مكروه، وينبغي أن تكون كراهة تحريم".

- ونحو الحديث السابق ما روى ثابت البناني عن أنس رضي الله عنه قال: "كنت أصلي قريبًا من قبر، فرآني عمر بن الخطاب، فقال: القبر القبر؛ فرفعت بصري إلى السماء وأنا أحسبه يقول: القمر!".

- وأما المعنى الثالث فيشهد له:

ما قاله الإمام البخاري حيث ترجم للحديث الأول بقوله: "باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور"، وأشار بذلك إلى أن النهي عن اتخاذ القبور مسجدًا يلزم منه النهي عن بناء المساجد عليه، وهذا أمر واضح، وقد صَرَّح به المناوي.

- وقال الحافظ ابن حجر في شرح الحديث: "قال الكرماني: مفاد الحديث منع اتخاذ القبر مسجدًا، ومدلول الترجمة اتخاذ المسجد على القبر، ومفهومها متغاير، ويجاب بأنهما متلازمان، وإن تغاير المفهوم". 

وهذا المعنى هو الذي أشارت إليه السيدة عائشة رضي الله عنها بقولها في آخر الحديث الأول: "فلولا ذاك أبرز قبره؛ غير أنه خشي أن يتخذ مسجدًا"؛ إذ المعنى فلولا ذاك اللعن الذي استحقه اليهود والنصارى بسبب اتخاذهم القبور مساجد المستلزم البناء عليها، لجعل قبره صلى الله عليه وسلم في أرض بارزة مكشوفة، ولكن الصحابة رضي الله عنهم لم يفعلوا ذلك خشية أن يُبنَى عليه مسجدٌ مِن بعض مَن يأتي بعدهم فتشملهم اللعنة.

ويؤيد هذا ما روى ابن سعد بسند صحيح عن الحسن البصري قال: "ائتمروا أن يدفنوه صلى الله عليه وسلم في المسجد، فقالت عائشة رضي الله عنها: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان واضعًا رأسه في حجري إذ قال: قاتل الله أقوامًا اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، واجتمع رأيهم أن يدفنوه حيث قُبِض في بيت عائشة رضي الله عنها". 

وهذه الرواية تدل على أمرين اثنين:

أحدهما: أن السيدة عائشة فهمت مِن الاتخاذ المذكور في الحديث أنه يشمل المسجد الذي قد يدخل فيه القبر؛ فبالأحرى أن يشمل المسجد الذي بُنِي على القبر.

الثاني: أن الصحابة أقروها على هذا الفهم؛ ولذلك رجعوا إلى رأيها فدفنوه صلى الله عليه وسلم في بيتها.

فهذا يدل على أنه لا فرق بين بناء المسجد على القبر، أو إدخال القبر في المسجد، فالكل حرام؛ لأن المحذور واحد؛ ولذلك قال الحافظ العراقي: "فلو بَنَى مسجدًا يقصد أن يُدفَن في بعضه دخل في اللعنة، بل يحرم الدفن في المسجد، وإن شرط أن يدفن فيه لم يصح الشرط لمخالفة وقفه مسجدًا".

وفي هذا إشارة إلى أن المسجد والقبر لا يجتمعان في دين الإسلام.

- ويشهد لهذا المعنى أيضًا: حديث عائشة رضي الله عنها في البخاري: "إنَّ أُولَئِكَ إذَا كانَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَمَاتَ، بَنَوْا علَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وصَوَّرُوا فيه تِلكَ الصُّوَرَ، فَأُولَئِكَ شِرَارُ الخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَومَ القِيَامَةِ"؛ فهذا نص صريح في تحريم بناء المسجد على قبور الأنبياء والصالحين؛ لأنه صرَّح أنه مِن أسباب كونهم من شرار الخلق عند الله تعالى، ويؤيده حديث جابر رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه"؛ فإنه بعمومه يشمل بناء المسجد على القبر، كما يشمل بناء القبة عليه، بل الأول أولى بالنهي كما لا يخفى، فثبت بهذا أن هذا المعنى صحيح أيضًا يدل عليه لفظ "الاتخاذ"، وتؤيده الأدلة الأخرى. 

والأحاديث التي سبق ذكرها في النهي عن اتخاذ القبور مساجد وبناء المساجد على القبور، شاملة للنهي عن الصلاة في المساجد المبنية على القبور، بل دلالتها على ذلك أوضح؛ وذلك لأن النهي عن بناء المساجد على القبور يستلزم النهي عن الصلاة فيها، من باب أن النهي عن الوسيلة يستلزم النهي عن المقصود بها والتوسل بها إليه، ومثاله: إذا نهى الشارع عن بيع الخمر، فالنهي عن شربه داخل في ذلك، كما لا يخفى، بل النهي عنه من باب أولى.

ومن البيِّن جدًّا: أن النهي عن بناء المساجد على القبور ليس مقصودًا بالذات، كما أن الأمر ببناء المساجد في الدور والمحلات ليس مقصودًا بالذات، بل ذلك كله من أجل الصلاة فيها، سلبًا أو إيجابًا.

فإذا أمر الشارع ببناء المساجد؛ فهو يأمر ضمنًا بالصلاة فيها؛ لأنها هي المقصودة بالبناء، وكذلك إذا نهى عن بناء المساجد على القبور، فهو ينهى ضمنًا عن الصلاة فيها؛ لأنها هي المقصودة بالبناء أيضًا، وهذا بيِّن لا يخفى على عاقلٍ -إن شاء الله تعالى-.

وجملة القول: إن الاتخاذ المذكور في الأحاديث المتقدمة يشمل كلَّ هذه المعاني الثلاثة، فهو مِن جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، وقد قال بذلك الإمام الشافعي رحمه الله؛ ففي كتابه (الأم) ما نصه: "وأكره أن يُبنى على القبر مسجدٌ، وأن يُسوَّى، أو يُصلَّى عليه، وهو غير مُسوَّى -يعني: أنه ظاهر معروف- أو يُصلى إليه، قال: وإن صلى إليه أجزأه وقد أساء، أخبرنا مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" قال: وأكره هذا للسنة والآثار، وأنه كره -والله تعالى أعلم- أن يُعظّمه أحد من المسلمين، يعني يتخذ قبره مسجدًا، ولم تؤمن في ذلك الفتنة والضلال على مَن يأتي بعده" (الأم للشافعي)

فقد استدل الشافعي هنا رحمه الله  بالحديث على المعاني الثلاثة التي ذكرها في سياق كلامه؛ فهو دليل واضح على أنه يفهم الحديث على عمومه، وكذلك صنع المحقق الشيخ على القارئ نقلًا عن بعض أئمة الحنفية، فقال في "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح": "سبب لعنهم: إما لأنهم كانوا يسجدون لقبور أنبيائهم تعظيمًا لهم، وذلك هو الشرك الجلي، وإما لأنهم كانوا يتخذون الصلاة لله تعالى في مدافن الأنبياء والسجود على مقابرهم، والتوجُّه إلى قبورهم حالة الصلاة نظرًا منهم بذلك إلى عبادة الله والمبالغة في تعظيم الأنبياء، وذلك هو الشرك الخفي؛ لتضمنه ما يرجع إلى تعظيم مخلوق فيما لم يؤذن له، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم أمته عن ذلك؛ إما لمشابهة ذلك الفعل سنة اليهود، أو لتضمّنه الشرك الخفي... كذا قاله بعض الشراح من أئمتنا، ويؤيده ما جاء في رواية: "لَعْنَةُ اللَّه على اليهود والنَّصارى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أنْبِيائِهِمْ مَساجِد"، قالت عائشة: يُحَذِّرُ ما صَنَعُوا... ".

والسبب الأول الذي ذكره، وهو: السجود لقبور الأنبياء تعظيمًا لهم، وإن كان غير مستبعد حصوله من اليهود والنصارى؛ فإنه غير متبادر من قوله صلى الله عليه وسلم: "اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"؛ فإن ظاهره أنهم اتخذوها مساجد لعبادة الله فيها على المعاني السابقة تبركًا بمَن دُفِن فيها من الأنبياء، وإن كان هذا أدَّى بهم -كما يؤدي بغيرهم- إلى وقوعهم في الشرك الجلي.