حرب العاشر من رمضان - السادس من أكتوبر كأنك تراها (5)

  • 128

يوم الحادي عشر من رمضان - السابع من أكتوبر

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فبعد مضي نصف قرن هجري من الزمان على حرب العاشر من رمضان 1393 إلى رمضان 1443 هـ - السادس من أكتوبر، رَحَل -أو يكاد- مَن حضروا هذه الحرب أو عاصروها؛ فلزم علينا أن نذكِّر الأجيال الجديدة بهذه الحرب المجيدة، وما قدَّم المصريون فيها مِن تضحياتٍ، وما بذلوه من جدٍّ واجتهاد في قوة تحمُّل وصبر، وإخلاص وصدق حقَّقوا به مجدًا كبيرًا في ظروف أسوأ وأصعب بكثيرٍ مِن الظروف التي نعاني منها حاليًا؛ إنها روح العاشر من رمضان - السادس من أكتوبر التي نفتقدها الآن، ونحن أحوج ما نكون إليها.

كان يوم الحادي عشر من رمضان - السابع من أكتوبر أشبه بامتداد لليوم الذي قبله، من ساعاته الأولى كانت القوات المصرية مشغولة بإكمال عبور وتدفق القوات الرئيسية إلى شرق القناة والانضمام إلى التشكيلات المشاركة في القتال مع الاستعداد لصد أي هجوم مضاد متوقع من العدو.

وكان الهدف الرئيسي يتضمن الإسراع في السيطرة على الأرض في داخل سيناء بعمق من 10 إلى 12 كيلو متر على طول خط المواجهة، وطوله 160 كيلو متر، فهو المدى الذي يمكن لصواريخ الدفاع الجوي تقديم التغطية والحماية المطلوبة للقوات المصرية البرية في معاركها في مواجهة الطيران العدو، ويدخل في هذا الهدف الرئيسي: تحرير مدينة القنطرة شرق؛ وذلك لأن القنطرة شرق تسيطر تمامًا على مداخل المحور الشمالي، وامتداد هذا المحور يصل مباشرة إلى فلسطين المحتلة، والمدينة محاطة بسبع نقاط محصنة تحصينًا قويًّا من كلِّ الأجناب تجعلها قلعة عسكرية.

وكانت خطة العدو الإسرائيلي في يوم السابع من أكتوبر، وهو في انتظار استكمال تعبئة قوات الاحتياطي ودخولها المعركة في صباح اليوم التالي يوم الاثنين 8 أكتوبر تقوم على:

- التمسك بمواقع خط بارليف.

- إيقاف تقدُّم القوات المصرية وإنزال أكبر قدرٍ من الخسائر بها.

- القيام بهجوم مضاد بالقوات الإسرائيلية المدرعة الموجودة في شرق القناة، وكانت تقدَّر بعدد 3 لواءات مدرعة تدعمها القوات الجوية.  

- بدأت القوات الجوية الإسرائيلية نشاطًا مكثَّفًا مع تباشير صباح الحادي عشر من رمضان السابع من أكتوبر، واستمر هذا النشاط طوال اليوم وامتد إلى الليل.

وكان الغرض من هذا النشاط:

- معاونة القوات بالهجمات المضادة ضد القوات المصرية.

- معاونة القوات الموجودة في نقاط خط بارليف التي لم تسقط بعد.

- مهاجمة المعابر المقامة على قناة السويس.  

- مهاجمة حائط الصواريخ والمطارات الأمامية التي تخدم القوات المصرية.

وكان الهدف واضحًا:

- إيقاف تدفق وتقدُّم القوات المصرية بتدمير وسائل العبور المقامة على القناة.

- محاولة تدمير وإرغام القوات المصرية التي نجحت في العبور على العودة غربًا من جديد.

- إضعاف وسائل الدفاع الجوي المصري؛ خاصة حائط الصواريخ، واستعادة السيطرة الجوية المعهودة للقوات الجوية الإسرائيلية.

- وتميز نشاط العدو نهارًا في ثلاث هجمات جوية مركَّزة، جاءت الأولى في الساعة السادسة صباحًا، والثانية في الساعة الثالثة والنصف ظهرًا، والثالثة في الساعة السادسة والنصف مساء.

وقد أشرك العدو مدفعيته بعيدة المدى في ضرب كتائب الصواريخ الأمامية في المنطقة شمال الإسماعيلية قبل مهاجمة الطيران الإسرائيلي لهذه الكتائب بفترة زمنية قليلة، بغرض إحداث خسائر في معدات كتائب الصواريخ وتعطيلها عن العمل لإنجاح الضربة الجوية، ولكن لم تحدث مدفعية العدو أي تأثير يذكر. 

وقد تمكَّن طيران العدو في القطاع الشمالي في المنطقة الممتدة بين الإسماعيلية والفردان من مهاجمة كتيبتي صواريخ سام 3 في محاولة يائسة لفتح ثغرة في حائط الصواريخ في هذا الاتجاه، ولكن فشل الهجوم حيث ألقت الطائرات المهاجمة حمولتها بعيدًا عن الكتيبة الأولى، وتم تدمير طائرة مهاجمة، بينما أسقطت عدة قنابل قرب الكتيبة الثانية تسببت في إصابة بعض الأفراد وأدَّى انفجارها إلى تعطل بعض معدات الكتيبة لمدة زمنية قصيرة أمكن فيها إصلاحها، وتم تدمير طائرة أخرى للعدو بينما لاذت باقي الطائرات المهاجمة بالفرار.

وتكررت محاولات مهاجمة حائط الصواريخ، فكانت النتيجة مزيدًا من الخسائر دون التمكُّن من تدمير أي كتيبة صواريخ، وقد قام الطيران الإسرائيلي بمحاولة مهاجمة المطارات الأمامية في المنصورة وطنطا، ومطارات جناكليس، والقطامية والصالحية، وهي المطارات التي تخدم جبهة القتال حيث تتمركز فيها معظم القوات الجوية المصرية، فهاجمت من 4 إلى 6 طائرات من الطيران الإسرائيلي؛ كل مطار منهما بغرض تدمير ما بها من طائرات في دشمها أو تدمير ممراتها لتعطيلها أكبر مدة ممكنة حتى يتم إصلاحها، وبالتالي حرمان القوات البرية المصرية من معاونة هذه القوات الجوية، ولكن الهجوم لم ينجح في تحقيق أهدافه.  

وكانت المحصلة بقاء حائط الصواريخ كالطود الشامخ، وتعطل بعض المطارات، لكن لمدة وجيزة، وباءت كل محاولات الاقتراب من المعابر لمهاجمتها بالفشل، ولكن تعرضت المعابر في قطاع الحيش الثالث لضرب مركز من مدفعية العدو -لا طيرانه-، فأعطيت الأوامر الصارمة للوحدات هناك بالدفاع عن هذه المعابر.

وقد قامت قوات الاحتياط الإسرائيلية خلف خط بارليف بهجوم مضاد قوي في يوم السابع من أكتوبر باستخدام لواء مدرع تقريبًا في كلِّ قطاع مِن قطاعات الجبهة؛ بدءًا من محور القنطرة ثم المحور الأوسط ثم المحور الجنوبي، على أن يُخصص لهذا الهجوم مجهود جوي كبير، وقد فشلت كل تلك الهجمات؛ خاصة مع فشل القوات الجوية الإسرائيلية في تقديم المعاونة للقوات البرية التي تقوم بالهجوم المضاد، فأرسلت في صباح ذلك اليوم أول طلعة من طائرات العدو الميراج لمعاونة الدبابات القائمة بالهجوم على محور القنطرة فلم تعد من هذه الطلعة أي طائرة، وتكرر الأمر على المحاور الأخرى، وتساقطت الطائرات وفشل الهجوم؛ إذ كيف تنجح القوات البرية دون معاونة من القوات الجوية؟!

فأصبح موقف العدو سيئًا، وأدَّى إحباط الضربة الجوية المضادة خلال يوم السابع من أكتوبر إلى تمكين قواتنا البرية من إتمام إقامة الكباري وإتمام عبور الوحدات المدرعة وأسلحة الدعم اللازمة للقوات في الشرق.

وقد أذاعت محطة الإذاعة البريطانية في العاشرة مساءً بناءً على ما أعلنه قائد القوات الإسرائيلية في سيناء بأن أكثر من 400 دبابة مصرية تمكَّنت من عبور القناة إلى الضفة الشرقية، وأن السيادة الجوية للقوات الإسرائيلية قد تخلخلت بفضل شبكة الصواريخ المصرية.

وقد يسَّر حائط الصواريخ بنهاية يوم 7 أكتوبر عبور 5 فرق مشاة، وعِدَّة مئات من الدبابات والأسلحة المعاونة على الكباري المحدودة أمام قوة جوية لها وزنها وثقلها، فكان نجاحها في هذا نجاحًا عظيمًا، وهو ما علَّق عليه وزير الجيش الأمريكي في تصريح له قال فيه: (إن عبور الجيش المصري للقناة رغم التفوق الجوي الإسرائيلي يعتبر نقطة تحول في الحرب الحديثة، سيكون من شأنها إحداث تغيرات جذرية في الإستراتيجيات العسكرية في العالم).

تحرير القنطرة شرق:

بدأت المعارك البرية لتحرير القنطرة شرق من يوم العاشر من رمضان - السادس من أكتوبر بعد عبور القناة، قامت بها الفرقة 18 مشاة بقيادة العميد فؤاد عزيز غالي، وامتد القتال إلى الليل واستمر بلا انقطاع حتى يوم الحادي عشر من رمضان - السابع من أكتوبر، حيث سقطت القلاع التي تحصِّن القنطرة شرق، وتمت محاصرة المدينة خارجيًّا وداخليًّا، وبقي تحرير داخل المدينة نفسها، فتحول القتال من قتال كان في الصحراء إلى قتال شرس داخل المدينة في شوارعها ومبانيها، استمر حتى انهارت مقاومة القوات المعادية، وبالفعل تمت السيطرة على المدينة بعد قتالٍ عنيفٍ استمر إلى العاشرة مساءً، وتم أسر مَن بقي مِن جنود العدو في المدينة والاستيلاء على كميات من الأسلحة والمعدات، وعدد من دبابات العدو، أي: سقطت المدينة وحصونها بعد 32 ساعة من القتال المستمر من بدء الحرب.

ومع صباح الثامن من أكتوبر استكملت عمليات تطهير المدينة من جنود العدو وسط فرحة عارمة من أهالي المدينة، وفي مساء يوم الثامن من أكتوبر أذاعت إذاعة القاهرة نبأ تحرير المدينة، وبالطبع أثَّر سقوط القنطرة شرق على معنويات العدو.

وكانت خسائر العدو في يوم 7 أكتوبر 32 دبابة؛ بالإضافة إلى أعداد كبيرة من المجنزرات، واستسلام عدد من ضباط وجنود العدو، وقد فقدت قواتنا في هذا اليوم 6 طائرات خلال الاشتباكات الجوية، وشهدت إسرائيل عقد اجتماعين لوزارة الحرب في يوم السابع من أكتوبر، الأول كان في السابعة صباحًا، والثاني في الخامسة مساءً، كان فيهما ديان وزير الدفاع غير متفائل بسبب خطورة الموقف، بينما علَّق رئيس الأركان الآمال الكبيرة على الهجوم المضاد المنتظر في اليوم التالي -الاثنين 8 أكتوبر- بعد استكمال التعبئة.

قال ديان بعد مرور يوم واحد من المعركة: (إني أريد أن أصرِّح بمنتهى الوضوح بأننا لا نملك الآن القوة الكافية لإعادة المصريين إلى الخلف عبر قناة السويس مرة أخرى، إن المصريين يملكون سلاحًا متقدمًا وهم يعرفون كيفية استخدام هذا السلاح ضد قواتنا، ولا أعرف مكانًا آخر في العالم كله محميًّا بكلِّ هذه الصواريخ كما هو في مصر. إن المصريين يستخدمون الصواريخ المضادة للدبابات والطائرات بدقة ونجاح تام، فكل دبابة إسرائيلية تتقدَّم نحو المواقع المصرية تصاب وتصبح غير صالحة للحرب).

وفي الثامنة مساءً عَقَدت جولدا مائير اجتماعًا لمجلس الوزراء بكامل هيئته، وأبلغتهم لأول مرة بحقيقة الموقف بأن مجموع خسائر إسرائيل بلغت حتى وقت الاجتماع 40 طائرة و200 دبابة، فقرر المجلس طلب النجدة من أمريكا لتعويض هذه الخسائر التي تكبَّدتها إسرائيل في الأربع وعشرين الساعة الماضية في الطائرات والدبابات بأسرع ما يمكن.

قرار مجلس الوزراء وصل إلى كيسنجر وزير خارجية أمريكا في التاسعة و40 دقيقة صباحًا بالتوقيت الأمريكي، وقد تضمن نقطتين: 

الأولى: أن إسرائيل تواجه الأمور بشجاعة وحزم في انتظار إتمام دعوة الاحتياطي لبدء الهجوم المضاد.

الثانية: طلب تعويض الخسائر التي تكبدتها إسرائيل على وجه السرعة، لكن وزارة الدفاع الأمريكية رأت أن إسرائيل -على الأقل- حتى هذه اللحظات لا تحتاج لأسلحة جديدة، فلديها في ترسانتها ما يكفيها، وأن تورط أمريكا في إرسال أسلحة إلى إسرائيل يجعلها أمام العالم غير محايدة.

وهنا تدخل اليهودي كيسنجر كما ذكر في مذكراته بتوصيته لإقناع نيكسون رئيس أمريكا بتعويض إسرائيل عن خسائرها في الحرب كي تصحح موقفها العسكري خلال يومين أو ثلاثة، وأنه مع انتهاء حالة لا سلم ولا حرب، ووقوع الحرب هناك فينبغي عدم السماح بهزيمة إسرائيل، ولو أدَّى الأمر إلى التدخل الأمريكي المباشر. 

ومع نهاية يوم 7 أكتوبر بلغت نقاط العدو الحصينة التي سقطت 23 نقطة، احتلتها القوات المصرية، ويوم 8 أكتوبر ارتفع العدد إلى 29 نقطة، وسقطت نقطة لسان التمساح المنيعة يوم 13 أكتوبر؛ فلم تبقَ إلا نقطة واحدة فقط لم تسقط، ولكنها لم تكن تمثِّل خطرًا على القوات المصرية.

ويذكر ديان في مذكراته عن حرب أكتوبر: أن سقوط هذه النقاط كان نتيجة لعزلها عن باقي القوات الإسرائيلية، وأنها لم تكن مستعدة لمواجهة مثل هذا الهجوم الضخم المكثَّف، ورغم قتالها بشجاعة، لكن قُتِل الكثير من ضباطها، ورفضت الأوامر بالاستسلام أو الجلاء فحوصرت حتى انقطعت اتصالاتها بكل القوات، فلم يعد لها القدرة عل التمسك بالنقاط، وكان أقوى ما في هذه الاستحكامات هو الجزء الذي يقع تحت الأرض، ويضم حجرة العمليات ومضاجع الجنود، أما مراكز إطلاق النار وخنادق المواصلات، فكان من الضروري أن تكون على سطح الأرض، فسقطت هذه المواقع المكشوفة عندما تعرضت للقصف ثم نيران الحصار، وقتل رجالها أو أجبروا على المغادرة، وكانت آخر نقطة تسقط ويؤخذ رجالها أسرى هي نقطة (ماسريك) التي تحكم المدخل الجنوبي لقناة السويس.

ويذكر ديان: أن الدبابات التي كانت معدة للربط بين النقاط الحصينة، وتقديم العون لها كانت على بعد 6 أميال للخلف، وعندما حاولت التقدم للأمام وجدت المصريين قد سبقوها إلى هناك، وتعرضت لنيران عنيفة، وتم تدمير معظمها وشل فاعليتها.

ويرى ديان: أن رجال التحصينات لم يتم اختيارهم جيدًا، فكان معظمهم من قدامى الاحتياط، مَرَّ عليهم عامان دون تدريبات، وحالتهم النفسية لم تكن مهيأة للحرب، كما أن الأسلحة وأجهزة الإشارة كانت في مستوى أقل من المقبول نتيجة لحالة السلم، ولم تلقَ إمدادات وتعزيزات تمكنها من الحفاظ على أصعب خطوط الجيش المتقدمة، وهو خط القناة.

وكلام ديان يدينه ويدين كل قياداته العسكرية أن يكون هذا حال قواته على أهم جبهة قتالية عنده، ويبيِّن كلامه بوضوح عنصر المباغتة والمفاجأة التي وضعته فيه القيادة المصرية.

يقول ديان في مذكراته: (غير أن الضغط الرئيس عسكريًّا ونفسيًّا، جاء عندما تدفق آلاف الجنود معهم الدبابات، واقتحموا الاستحكامات واخترقوا حقول الألغام والبوابات، وتصدي المدافعون للمهاجمين، وعندما كانت مواقع إطلاق النار تسقط أو تخلي كان رجالنا ينتقلون إلى مواقع أخرى، وهم مستمرون في قتال الأعداء، وبمرور الساعات أصبح واضحًا للجنود أن موقفهم يزداد صعوبة، وأن احتمال وصول إمدادات لهم أصبح سرابًا، فقد سُدَّت الطرق أمام وصول الدبابات إليهم، واحترقت الدبابات التي حاولت ذلك، وبدأ الرجال يطالبون بإخراجهم مما هم فيه).

ويضيف ديان: (وعلى أية حال، فإن المصريين لم يتقدَّموا خلال اليومين الأولين أكثر من بضعة أميال، وكان الوقت كافيًا لكي نعبئ كل الاحتياطي، وتصل الإمدادات إلى ميدان القتال).

ويقول ديان في مذكراته أيضًا عن أحوال جيشه في يوم السابع من أكتوبر: (في الساعات الأربع والعشرين الأولى من نشوب الحرب أصبحنا لا نملك سوى قوة ضئيلة من المدرعات على الجبهة المصرية، وما أن انهار خط الدفاع الأول حتى تدفَّق المصريون على سيناء بقوات ضخمة وبقوة هائلة من الأسلحة، وقاتل لواء دبابات الجنرال (ألبرت ماندلر) ببسالة لإيقاف تقدُّم المصريين، ولم يكن اللواء منتشرًا وَفْق خطة الطوارئ في موقعه عندما بدأت الحرب؛ ولذا فإنه ما إن تقدَّم نحو القتال حتى تعرَّض لنيران عنيفة من الدبابات المصرية بالضفة الشرقية، ودارت معركة عنيفة ووحشية طوال بعد ظهر هذا اليوم.

وازداد الموقف سوءًا أثناء الليل، وعند الفجر وصلت موجات جديدة من المدرعات والمشاة المصريين، وكانت قواتنا قد تكبَّدت خسائر فادحة في الرجال والمدرعات خلال هذه المعركة المستمرة، ولم يبقَ سوى عدد قليل من دباباتنا قادر على الاستمرار في القتال، وقد نجحوا في وقف قوة اندفاع تقدُّم المصريين، ولكنهم فشلوا في إعادتهم مرة أخرى عبر القناة).

ويذكر ديان: أنه توجَّه إلى القيادة المتقدمة في الجبهة الجنوبية (أي: الجبهة المصرية) وعاد إلى تل أبيب، حيث عرض على رئيسة الوزراء في اجتماع مجلس الوزراء إخلاء خط القناة و الانسحاب إلى خطٍّ جديدٍ، وأعرب عن أنه ليس في المقدور إعادة المصريين إلى الضفة الغربية، واقترح طلب دبابات وطائرات من أمريكا والدول الأوروبية.

قال ديان: (وبدا واضحًا من أسئلتهم واستجواباتهم بعد هذه الملاحظات القاسية: أن الضعف ليس ناتجًا عن الموقف العسكري الحالي، وإنما من شخصيتي أنا وأنني فقدت الثقة، وأن تقديري للموقف ليس صحيحًا، وأنني متشائم للغاية).

وأضاف: (وافق رئيس الأركان على وجهة نظري بالنسبة للموقف، وأبدى استعداده لإقامة خط دفاع ثان، ولكنه يرغب في القيام بهجوم مضاد في هذا المساء يستخدم فيه تشكيلات "شارون" و"برن").

وقال ديان: (وكانت مؤشرات الحقيقة تقول: إنه إذا استمرت خسائرنا في القتال على هذا المعدل؛ فإننا سنجد أنفسنا في منتصف الحملة -يعني الحرب- بدون قوات فَعَّالة).

وقال: (وسافر رئيس الأركان إلى سيناء وطلبني تليفونيًّا من هناك؛ ليخبرني أنهم قرروا القيام بهجوم مضاد صباح الاثنين 8 أكتوبر. وعاد في منتصف الليل حيث توجهنا إلى حجرة العمليات لنسمع التفاصيل في اجتماع مجموعة العمليات).

بطل بدون بِذْلة عسكرية وبدون إطلاق رصاصة واحدة:

إذا كان لحائط الصواريخ دوره الكبير في حرب أكتوبر، فهنا ينبغي الإشارة لدور كبير وراء تحقيق هذا النجاح للعالم الدكتور محمود يوسف سعادة الذي قام بحلِّ معضلة كادت تؤثِّر بالسلب على مشاركة وفاعلية حائط الصواريخ في حرب العاشر من رمضان، فما دور دكتور سعادة؟ 

عقب طرد السادات في عام 1972 للخبراء السوفييت الذين كان منهم مشرفون على حائط الصواريخ تراخى وتعنت الاتحاد السوفيتي في مدِّ الجيش المصري بالأسلحة، وتوريد الوقود اللازم لتشغيل حائط الصواريخ، وتأزم الموقف خلال عام 1973 مع انتهاء صلاحية وقود الصواريخ، فأصبح حائط الصواريخ مهددًا بالخروج من الخدمة، وكان لا بد من اللجوء إلى إيجاد حلول سريعة، فشراؤه من الخارج مكلَّف، وكميات الشراء الكبيرة ملفتة لأنظار مخابرات العدو، وتضر بالخداع الإستراتيجي للحرب.

ولم تستطع الأجهزة الفنية والمعامل داخل القوات المسلحة التغلُّب على المشكلة، فتقرر الاستعانة بالمدنيين، حيث أوكلت هذه المهمة الخطيرة للشاب الدكتور محمود سعادة الأستاذ في قسم التجارب نصف الصناعية بالمركز القومي للبحوث الذي تحمَّس لحلِّ المشكلة في سرية تامة، فكان يخرج من عمله الحكومي اليومي فيتجه إلى معامل الجيش لمواصلة جهوده العلمية إلى الليل.

وبعد بحث ودراسة لمدة شهر متواصل استطاع دكتور سعادة استخلاص 240 لتر وقود جديد صالح للاستخدام من كميات الوقود منتهية الصلاحية، واستطاع فك شفرة وقود الصواريخ والتعرُّف على مكوناته الأساسية، ونسب كل منها بدقة، وأجريت التجارب على الوقود الجديد بإطلاق أحد الصواريخ بعد شحنه بهذا الوقود وثبتت فاعليته، وتم شراء مكونات الوقود من الخارج على أنها مواد كيماوية تستخدم في الصناعات، مما مَكَّن القوات المسلحة مِن توفير عشرات الأطنان اللازمة من هذا الوقود بعثت الطمأنينة لقادة الجيش، واتخذوا بناءً على ذلك قرار دخول الحرب.

وظل هذا الأمر في طي الكتمان، وقد مُنِح دكتور سعادة جائزة الدولة التشجيعية تقديرًا لجهوده، وظل يعمل باقي حياته في أبحاثه بدأب وصمت، فشغل منصب نائب رئيس أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا، ومديرًا لمكتب براءة الاختراع في التسعينيات، ثم أستاذًا متفرغًا بالمركز القومي للبحوث، وقد توفي رحمه الله في 28 ديسمبر 2011م. 

ومِن الطرائف التي تُذكَر هنا: أنه في عام 2010 وَقَع حادث تصادم بين سيارتين: الأولى يقودها عصام الحضري حارس مرمى منتخب مصر الكروي، والثانية كان يقودها دكتور سعادة، وتدافع شهود الحادث للاطمئنان على سلامة حارس المرمى الدولي وتوجَّه البعض منهم إلى الرجل كبير السن قائد السيارة الثانية الذي لا يعرفه أحدٌ؛ لإقناعه بمسامحة الكابتن المخطِئ؛ نظرًا لما قَدَّمه الكابتن لمنتخب مصر الكروي مِن عطاءٍ، وهم لا يعلمون أن هذا الرجل المهيب الطلعة الذي شاب رأسه عالم جليل أعطى مصر أكثر بكثيرٍ مما أعطته منتخباتها الرياضية مجتمعة، وساهم مساهمة فَعَّالة في قهر سلاح إسرائيل الجوي في حرب أكتوبر.  

وللحديث بقية إن شاء الله.