وقفات مع حديث الكفالة (2)

  • 47

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد ذكرنا أنَّ الرجل المدِين كَبُرَ عليه جدًّا ألا يجد مركبًا؛ فعَمَدَ إلى شيءٍ لا يفعله أحدٌ أبدًا -وهو: حيلة عجيبة-: "أَخَذَ خَشَبَةً فَنَقَرَهَا وَأَدْخَلَ فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ وَصَحِيفَةً مِنْهُ إِلَى صَاحِبِهِ، ثُمَّ زَجَّجَ مَوْضِعَهَا، ثُمَّ أَتَى بِهَا الْبَحْرَ"، وفي رواية ابن حبان، قال: "وَيَنْطَلِقُ الذِي عَلَيْهِ الْمَالُ، فَيَنْحَتُ خَشَبَةً، وَيَجْعَلُ الْمَالَ فِي جَوْفِهَا، ثُمَّ كَتَبَ صَحِيفَةً مِنْ فُلانٍ إِلَى فُلانٍ، إِنِّي دَفَعْتُ مَالَكَ إِلَى وَكِيلِي، ثُمَّ سَدَّ عَلَى فَمِ الْخَشَبَةِ!".

فما عسى أن تفعل خشبة في أمواج كالجبال؟! وإذا هبَّت ريح عاصف في البحر تكون السفن العملاقة كالريشة؛ فكيف بخشبة كهذه؟!

لكن العجيب أنها سارت ضِدَّ الأمواج، قال تعالى: "مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا".

 وَمَنِ استَدَانَ وَعَزَمَ عَلَى الوَفَاءِ أعَانَهُ اللهُ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَهَا يُرِيدُ إِتلافَهَا أَتلَفَهُ اللهُ"؛ لذلك هذا الرجل حتى لا يُخالِف العهدَ: "أَخَذَ خَشَبَةً فَنَقَرَهَا وَأَدْخَلَ فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ"، ثم رَمَى بها في البحر.

التوكُّلُ وحُسنُ الظنِّ:

 قال النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل المدِين: "ثُمَّ أَتَى بِهَا -أي: بالخشبة- إِلَى البَحْرِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ تَسَلَّفْتُ فُلانًا أَلْفَ دِينَارٍ، فَسَأَلَنِي كَفِيلًا، فَقُلْتُ: ‌كَفَى ‌بِاللهِ ‌كَفِيلًا، فَرَضِيَ بِكَ، وَسَأَلَنِي شَهِيدًا، فَقُلْتُ: كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا، فَرَضِيَ بِكَ، وَأَنِّي جَهَدْتُ أَنْ أَجِدَ مَرْكَبًا أَبْعَثُ إِلَيْهِ الذِي لَهُ فَلَمْ أَقْدِرْ، وَإِنِّي أَسْتَوْدِعُكَهَا، فَرَمَى بِهَا فِي البَحْرِ حَتَّى وَلَجَتْ فِيهِ"، قال الحافظ: "وَزَادَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَدِّ حَمَالَتَكَ"، وهنا نجد أنَّ الرجل المدِين على درجة عالية من التوكُّلِ وحُسنِ الظنِّ، والتوكل الذي هو اعتماد القلب على الله، وأنَّ يعلمَ أنَّ الأمر كُلَّهُ لله، وأنَّ ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، مع الأخذ بالأسباب.

التَّوَكُّلُ لا يُنَافِي الأَخذَ بِالأَسبَابِ:

 قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ثُمَّ انْصَرَفَ -أي: المدِين- وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَلْتَمِسُ مَرْكَبًا يَخْرُجُ إِلَى بَلَدِهِ": لإيصال الدَّين إلى صاحبه؛ لأنه لم يعتمد على الخشبة أن تصل؛ لأنَّ الحقوق لا ينبغي أن تُرَدَّ هكذا، فلا يجوز أن يعتمد المرء فيها على هذه الخوارق؛ فإنَّ الأصل في أموال الناس العصمة، وهذا الرجل لأنه يعتمد بقلبه اعتمادًا كليًّا على ربِّهِ فعلَ ما فعل، ولَمَّا علِمَ أنَّ هذا ليس هو سبيل قضاء الدَّين الشرعي، أخذ ألف دينارٍ أخرى وانطلق، وهذا دليلٌ على أنَّ الرجل كَسَبَ وربِحَ.

الكفالة هي الرعاية الكاملة:

 قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فَخَرَجَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ يَنْظُرُ لَعَلَّ مَرْكَبًا يَجِيءُ بِمَالِهِ، فَإِذَا بِالْخَشَبَةِ الَّتِي فِيهَا الْمَالُ"، وفي رواية ابن حبان، قال: "فَجَعَلَ يَهْوِي بِهَا البَحرُ -أي: بالخشبة- حَتَّى رَمَى بِهَا إِلَى السَّاحِلِ".

 كَفَلَ اللهُ تعالى الخشبةَ وكلأها بعنايته فلم تضيعها الأمواج، ورعاها حتى وقفت أمام صاحب الدَّين، وعناية الله جعلتها تصل في الموعد الذي كان ينتظر فيه صاحبه على الشاطئ؛ لذلك روى البخاري هذا الحديث في "كتاب الكفالة"، وهذا هو أول حديث فيه.

إثباتُ كرامات الأولياء:

 قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فَأَخَذَهَا لأَهْلِهِ حَطَبًا، فَلَمَّا نَشَرَهَا وَجَدَ المَالَ وَالصَّحِيفَةَ"، وفي رواية ابن حبان، قال: "أَوْقِدُوا هَذِهِ الْخَشَبَةَ، فَكَسَرُوهَا، فَانْتَثَرَتِ الدَّنَانِيرُ، وَالصَّحِيفَةُ، فَأَخَذَهَا، فَقَرَأَهَا، فَعَرَفَ!"؛ تأمَّل مَدى عِظَم توكُّل المدِين، وانظر كيف سخَّر الله البحر لحَمْل الخشبة وتوجيهها إلى جهة معينة، وعدم غرقها أو أن تأخذها بعض السفن في البحر، وكيف سخَّر صاحِبَ المال للخروج في وقتِ الوصول، وكيف سخَّرهُ لأخذها ونَشرِها، ثم حصوله على مالِهِ.

قال الحافظ ابن حجر في فوائدِ هذه القصة: (فَضْلُ التَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ، وَأَنَّ مَنْ صَحَّ تَوَكُّلُهُ تَكَفَّلَ اللهُ بِنَصْرِهِ وَعَوْنِهِ).

ويُستفادُ أيضًا: إثباتُ كرامات الأولياء، وهي مِن عقيدة أهل السُنَّة والجماعة.

وللحديث بقية إن شاء الله.