ولو شاء ربك ما فعلوه (1)

  • 39

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

ففي واقع تتلاطم فيه الفتن وتموج كموج البحر، والريح عاصف؛ فتنٌ يرقق بعضها بعضًا، والمؤمن وجل خائف على نفسه وأهله، والإسلام والمسلمين، فالسهام من كل جانب، وقد يصيب السهم مَقتلًا؛ سهام من قوم كفار يروجون لأفكار الشذوذ والإلحاد، بل يفرضونها فرضًا!

وسهام من جماعات تدعي أنها نسوية، وهي تدمر المرأة تمامًا تحت شعارات المطالبة بحقوقها فضلًا عن تدمير الأطفال والأسرة والمجتمع، وسهام من قوم من بني جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا؛ يحرِّفون الكلم عن مواضعه، يريدون العودة لظلمات الخرافة والجهل والتعصب.

وسهام ممَّن باعوا دينهم بعرض من الدنيا يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت، وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالًا بعيدًا، وسهام من دعاة على أبواب جهنم يصورون الحق باطلًا والباطل حقًّا؛ فضلًا عن سهام المخدرات، والانحلال والفجور، والتبرج والعلاقات المحرمة، إلخ.

وسهام التكفير والتفجير وقتل المعصومين من خوارج العصر وأذنابهم، وسهام الشهوات والشبهات من كل جانب، والقلوب وجلة خائفة؛ فإنه ليس لها من دون الله كاشفة. 

يقف المسلم الموحد الملتزم بدينه المعتصم بحبل الله المستمسك بنور الوحي مجاهدًا قابضًا على الجمر، لكن يحزنه الذي يقولون، يتألم لحال أمته، ويتعجب من قبول النفوس للباطل؟!

كيف يدافع آدمي عن جرائم قوم لوط؟!

وكيف يكون من حفيدات عائشة مَن تلقي السمع لتلك الحفنة من الحاقدات -عدوات أنفسهن-؛ بدعوى حقوق المرأة؟!

كيف يقبل عاقل تلك الخرافات والانحرافات تحت ستار الصوفية، بل الطقوس الوثنية باسم حب الأولياء والصالحين؟!

كيف راج على ذوي الشهادات العلمية تلك الترهات من بعض كهنة ومبشري التنمية البشرية ممَّن -عن علم أو عن جهل مركب- ينشر الطقوس البوذية والهندوسية والتاوية وغيرها؟!

كيف سمحت نفس مصلٍّ بتحويل المساجد إلى قاعات للموسيقى والرقص، والتمايل تحت شعارات كاذبة، وبدعوى محبة النبي صلى الله عليه وسلم؟!

كيف؟ وكيف؟ وكيف... ؟!

هنا يحتاج المؤمن إلى نداءات الوحي ليهتدي القلب وتنضبط البوصلة؛ وإلا ضاقت الصدور، وانكسرت العزائم؛ فإن الوحي غذاء الأرواح وقرة العيون، ومن تلك الآيات الهادية على الطريق: قول الله عز وجل: "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ"، وتأمل تأثير تلك الآية وأمثالها وأنت تتلوها في سياقها، وتأثير ذلك على قلب المؤمن؛ فهي قوت لقلبه وزاد، ودرع وسلاح حقيقي في مواجهة تلك الفتن؛ فما أعظمها من كلمات!

يتأمل المؤمن ويستحضر أن كل تلك الأحداث والمخاطر هي بقدر الله الكوني، ولو شاء الله ما فعلوا تلك المعاداة للأنبياء وأتباعهم، ولا نطقوا بتلك الشبهات المزخرفة التي يلبسونها بسحر البيان صورة الحق، فكل ذلك بإذن الله الكوني القدري، وهو الحكيم العليم الخبير سبحانه وتعالى، فيتأمل صفات الله عز وجل وأفعاله، وأنها كلها خير ولا بد، حتى وإن وقع الشر في بعض مفعولاته؛ إلا أن تقدير الله لذلك وخلقه له وفعله خير، وهو لا يحب منهم أن يفعلوا ذلك، لكن قَدَّره كونًا لحِكَمٍ بالغةٍ، والله يفعل ما يشاء، وكل أفعاله حكمة ورحمة، والمؤمن يوقن بذلك يقينًا مبنيًّا على العلم بالله وأسمائه وصفاته، فيكره الكفر والفسوق والعصيان؛ لأن الله لا يحب ذلك بل يبغضه، لكن في نفس الوقت يرضى المؤمن بتقدير الله عز وجل، ويعلم أن ما يترتب على ذلك من الخير هو أعظم وأحب إلى الله عز وجل، مع ثقة المؤمن بموعود الله عز وجل، فيسكن ويطمئن أن العاقبة للتقوى.

ثم الآية توجهك بعدها بأمر واضح ومباشر: "فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ"؛ أي: دع أذاهم واصبر على ذلك، وتوكل على الله في عداوتهم، فإن الله كافيك وناصرك عليهم؛ "وذر الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون"، "فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ"، وذرهم في غيهم وضلالهم، وقُلْ: "يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ"؛ فلا تنشغل بالباطل، بل اشغل نفسك بالحق، وامضِ في طريقك، واستمر في بنائك وإصلاحك ومنهجك.

وليس معنى هذا أن نسكت عن الباطل أو نتركه ينتفش وينتشر؛ بل نقاومه ونجاهده بألسنتنا وأيدينا وأموالنا وأنفسنا، مع تعلُّق قلوبنا بالله عز وجل وحده، واستمرارنا في مسيرنا؛ فهو ترك إيجابي للانشغال عنهم بواجب الوقت وما هو أولى، فليس تركًا سلبيًّا انعزاليًّا؛ فلا رهبانية في الإسلام، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، وفي سيرته التطبيق العملي للقرآن الكريم.

وللحديث بقية إن شاء الله.