• الرئيسية
  • المقالات
  • الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (88) دين إبراهيم وهو دين جميع الأنبياء واحد وهو قائم على الوحي المُنَزَّل (8)

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (88) دين إبراهيم وهو دين جميع الأنبياء واحد وهو قائم على الوحي المُنَزَّل (8)

  • 51

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛   

فقال الله تعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا . وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ‌وَكَلَّمَ ‌اللَّهُ ‌مُوسَى تَكْلِيمًا . رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) (النساء: 163-165).

الفائدة الثامنة:

الأدلة والنقول في إثباتِ العُذْر بالجهل الناشئ عن عدم البلاغ، وعدم تكفير مَن لم تقم عليه الحجة الرسالية التي يُكفَّر منكرها، أو إذا لم تستوفَ الشروط وتنتفي الموانع.

قال الإمام محمد بن حزم رحمه الله: "الكلام فيمَن يُكَفَّر ولا يكفَّر: اختلف الناس في هذا الباب، فذهبت طائفة إلى أن مَن خالفهم في شيء من مسائل الاعتقاد أو في شيء من مسائل الفتيا؛ فهو كافر. وذهبت طائفة إلى أنه كافر في بعض ذلك، فاسق غير كافر في بعضه؛ على حسب ما أدتهم إليه عقولهم وظنونهم. وذهبت طائفة إلى أن مَن خالفهم في مسائل الاعتقاد فهو كافر، وأن مَن خالفهم في مسائل الأحكام والعبادات فليس كافرًا ولا فاسقًا، ولكنه مجتهد معذور؛ إن أخطأ مأجور بنيته. وقالت طائفة بمثل هذا فيمَن خالفهم في مسائل العبادات، وقالوا فيمَن خالفهم في مسائل الاعتقادات أن كلَّ الخلاف في صفات الله عز وجل فهو كافر، وإن كان فيما دون ذلك فهو فاسق.

وذهبت طائفة إلى أنه لا يكفر ولا يفسق مسلم بقول قاله في اعتقاد أو فتيا، وأن كلَّ مَن اجتهد في شيءٍ مِن ذلك فدان بما رأى أنه الحق؛ فإنه مأجور على كل حال؛ إن أصاب الحق فأجران، وإن أخطأ فأجر واحد، وهذا قول ابن أبي ليلي، وأبي حنيفة، والشافعي، وسفيان الثوري، وداود بن علي رضي الله عن جميعهم.

وهو قول كلِّ مَن عرفنا له قولًا في هذه المسألة من الصحابة رضي الله عنهم لا نعلم منهم في ذلك خلافًا أصلًا؛ إلا ما ذكرنا مِن اختلافهم في تكفير مَن ترك صلاة متعمدًا حتى خرج وقتها، أو ترك أداء الزكاة، أو ترك الحج، أو ترك صيام رمضان، أو شرب الخمر، واحتج مَن كفر بالخلاف في الاعتقادات بأشياء نوردها إن شاء الله عز وجل".

إلى أن قال: "والحق هو أن كلَّ مَن ثبت له عقد الإسلام؛ فإنه لا يزول عنه إلا بنصٍّ أو إجماع، وأما بالدعوى والافتراء فلا؛ فوجب أن لا يكفَّر أحدٌ بقول قاله إلا بأن يخالف ما قد صح عنده أن الله تعالى قاله أو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله، فيستجيز خلاف الله تعالى وخلاف رسوله عليه الصلاة والسلام، وسواء كان ذلك في عقد دين أو في نحلة، أو في فتيا، وسواء كان ما صح من ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منقولًا نقل إجماع تواتروا، أو نقل آحاد (قلتُ: مقصوده رحمه الله في ذلك أن مَن عَلِم صحة حديث ولو آحاد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فاستجاز مخالفته، وعاند بعد أن علمه؛ فهو الذي يكفَّر)؛ إلا أن مَن خالف الإجماع المتيقن المقطوع على صحته فهو أظهر في قطع حجته، ووجوب تكفيره؛ لاتفاق الجميع على معرفة الإجماع، وعلى تكفير مخالفته (قلتُ: والصحيح أن الإجماع نوعان: الأول: مقطوع به، معلوم من الدِّين بالضرورة؛ فهذا يكفَّر مخالفه بمجردة مخالفته؛ لأن انتشارَ العلم به بين المسلمين "خاصهم وعامهم" يجعل الحجة به قائمة على كلِّ أحدٍ، وأما إذا كان إجماعًا مقطوعًا به، لكن لم ينتشر علمه بين المسلمين، ولا يُعلم بالضرورة؛ فهذا يضلل مخالفه؛ لأنه لم يسأل أهل الذِّكْر وهم العلماء فيما وجب عليه تعلُّمه.

والنوع الثاني من الإجماع: ما كان مظنونًا بنقل بعض أهل العلم به، وليس قطعيًّا؛ فلا يكفَّر مخالفه، لكن مخالفته لا تجوز، كما لا يجوز مخالفة الحديث الصحيح عند مَن صَحَّ عنده)؛ برهان صحة قولنا قول الله تعالى: (وَمَنْ يُشَاقق الرَّسُول من بعد مَا تبين لَهُ الْهدى وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ نوله مَا تولى ونصله جَهَنَّم وَسَاءَتْ مصيرًا).

قال أبو محمد: هذه الآية نصٌّ بتكفير مَن فعل ذلك، فإن قال قائل: أن مَن اتبع غير سبيل المؤمنين؛ فليس من المؤمنين. قلنا له -وبالله التوفيق-: ليس كلُّ مَن اتبع غير سبيل المؤمنين كافرًا؛ لأن الزنا، وشرب الخمر، وأكل أموال الناس بالباطل، ليست من سبيل المؤمنين، وقد علمنا أن مَن اتبعها؛ فقد اتبع غير سبيل المؤمنين، وليس مع ذلك كافرًا، ولكن البرهان في هذا قول الله عز وجل: (فَلَا وَرَبك لَا يُؤمنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوك فِيمَا شجر بَينهم ثمَّ لَا يَجدوا فِي أنفسهم حرجًا مِمَّا قضيت ويسلموا تَسْلِيمًا)؛ فهذا هو النص الذي لا يحتمل تأويلًا، ولا جاء نص يخرجه عن ظاهره أصلًا، ولا جاء برهان بتخصيصه في بعض وجوه الإيمان.

(قلتُ: نفي الإيمان في هذه الآية الكريمة التي احتج بها نوعان: نوع يزول معه أصل الإيمان بالكلية، وهذا فيمَن رَدَّ أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يقبل الحُكم "أبى واستكبر، أو كَذَّب واستحل مخالفة أمر النبي عليه الصلاة والسلام"، أما النوع الثاني مِن نفي الإيمان: فهو نحو نفي الإيمان عن السارق، والزاني، وشارب الخمر في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (‌لَا ‌يَزْنِي ‌الزَّانِي ‌حِينَ ‌يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ) (متفق عليه).

والدليل على ذلك: أن مَن نزلت فيه ممَّن كانت فيه خصلة النفاق ممَّن قال للنبي صلى الله عليه وسلم في حُكْمٍ حَكَم به: "أن كان ابن عمتك!"؛ لم يقتله النبي صلى الله عليه وسلم على الرِّدَّة، ولم يأمر بمعاملته معاملة الكفار، وهذا التفريق بين النوعين يُعرَف بحال كلِّ نوعٍ منهما، والسياق الذي يدل عليه في الإباء والاستكبار، والمعاندة لله وللرسول صلى الله عليه وسلم، واستحلال المخالفة، أو المخالفة العملية دون أن يكون ذلك مع إباء واستكبار لشرع الله).

قال أبو محمد: وأما ما لم تقم الحجة على المخالف للحق في أي شيء كان؛ فلا يكون كافرًا؛ إلا أن يأتي نصٌّ بتكفيره فيوقف عنده، كمَن بلغه وهو في أقاصي الزنج ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فقط، فيمسك عن البحث عن خبره فإنه كافر؛ فإن قال قائل: فما تقولون فيمَن قال: أنا أشهد أن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أدري: أهو قرشي أم تميمي أم فارسي؟ ولا هل كان بالحجاز أو بخراسان؟ ولا أدري أحي هو أو ميت؟ ولا أدري لعله هذا الرجل الحاضر أم غيره؟ قيل له: إن كان جاهلًا، لا علم عنده بشيء من الأخبار والسِّيَر لم يضره ذلك شيئًا، ووجب تعليمه (قلتُ: يقصد المبالغة في ذلك وإلا فهذا لا يجهله مسلم ولا كافر)، فإذا عَلِم وصَحَّ عنده الحق؛ فإن عاند فهو كافر حلال دمه وماله، محكوم عليه بحكم المرتد، وقد علمنا أن كثيرًا ممَّن يتعاطى الفتيا في دين الله عز وجل، نعم وكثيرًا من الصالحين لا يدري كم لموت النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أين كان، ولا في أي بلدٍ كان، ويكفيه مِن كل ذلك إقراره بقلبه ولسانه أن رجلًا اسمه محمد صلى الله عليه وسلم، أرسله الله تعالى إلينا بهذا الدِّين.

قال: وكذلك مَن قال: إن ربه جسم؛ فإنه إن كان جاهلًا أو متاولًا فهو معذور لا شيء عليه، ويجب تعليمه، فإذا قامت عليه الحجة من القرآن والسنن فخالف ما فيهما عنادًا؛ فهو كافر يحكم عليه بحكم المرتد، وأما مَن قال: إن الله عز وجل هو فلان لإنسانٍ بعينه، أو أن الله تعالى يحل في جسم من أجسام خلقه، أو أن بعد محمدٍ صلى الله عليه وسلم نبيًّا غير عيسى بن مريم؛ فإنه لا يختلف اثنان في تكفيره لصحة قيام الحجة بكلِّ هذا على كلِّ أحد، ولو أمكن أن يوجد أحدٌ يدين بهذا لم يبلغه قط خلافه؛ لما وجب تكفيره حتى تقوم عليه الحجة".

انتهى كلامه رحمه الله، ولنا استكمال له.