الرجل الرباني

  • 95

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد قال الله تعالى: "مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ ‌وَلَكِنْ ‌كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ". 

قال ابن جرير الطبري رحمه الله: "الربَّاني هو: الجامعُ إلى العلم والفقه، والبصرَ بالسياسة والتدبير، والقيام بأمور الرعية، وما يصلحهم في دُنياهم ودينهم". 

وعَلَّق الشيخ محمود شاكر رحمه الله على هذا التفسير فقال: "هذا التفسير قلَّ أن تجده في كتاب من كتب اللغة، وهو من أجود ما قرأت في معنى "الرباني"، وهو من أحسن التوجيه في فهم معاني العربية، والبصر بمعاني كتاب الله؛ فرحم الله أبا جعفر رحمة ترفعه درجات عند ربه".

الرباني: رجل من أهل القرآن؛ لا يكتفي بالقراءة في المصحف أو يحفظ بعض الأجزاء منه، بل هو يُدَرّس  القرآن ويداوم على دراسته وتدريسه، وهو مع ذلك رجل اجتماعي يقوم على مصالح الخلق، وإعانتهم في شؤونهم.

الرباني: ترى فيه العلم، والحكمة، والحلم؛ تحبه النفوس المؤمنة؛ لأنه القدوة الحسنة.

الرباني: قال الإمام الآجري رحمه الله: "لهذا العالم الرباني صفات وأحوال شتى، ومقامات لا بد له من استعمالها، فهو مستعمل في كلِّ حال ما يجب عليه، فله صفة في طلبه للعلم كيف يطلبه، وله صفة في كثرة العلم إذا كثر عنده ما الذي يجب عليه فيه فيلزمه نفسه، وله صفة إذا جالس العلماء كيف يجالسهم، وله صفة إذا تعلم من العلماء كيف يتعلم، وله صفة كيف يعلم غيره، وله صفة إذا ناظر في العلم كيف يناظر، وله صفة إذا أفتى الناس كيف يفتي، وله صفة كيف يجالس الأمراء إذا ابتُلي بمجالستهم، ومَن يستحق أن يجالسه ومن لا يستحق، وله صفة عن معاشرته لسائر الناس ممَّن لا علم معه، وله صفة كيف يعبد الله -عز وجل- فيما بينه وبينه، قد أعد لكلِّ حق يلزمه ما يقويه علي القيام به، وقد أعد لكل نازلة ما يسلم به من شرها في دينه، عالم بما يجتلب الطاعات، عالم بما يدفع به البليات، قد اعتقد الأخلاق السَنِيَّة، واعتزل الأخلاق الدنية".

الربانيون: أعظم الناس خشية للعَلَّام، وأكثرهم بركة على أهل الإسلام، قد عنوا بضبط الحلال والحرام؛ هم في الأرض كالنجوم في السماء، وكالدواء للداء، وكالضياء في الظلماء، نقلهم ظاهر، وسلطانهم قاهر، ودليلهم باهر، يدعون مَن ضل إلى الهدى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى؛ فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من تائه قد هدوه، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، ينفون عنه آثار أهل الغلو، وانتحال المبطلين، الذين يزيفون على الناس ويدلسون، وتأويل الجاهلين، وتفسيرات الجهلة للنصوص الشرعية؛ ينفون هذا كله، ويبيِّنون زيفه، فهم سرج الأمة، وهم أرحم بأمة محمد صلى الله عليه وسلم من آبائهم وأمهاتهم؛ لأن الآباء والأمهات إنما يحفظون أولادهم من نار الدنيا، والعلماء يحفظونهم من نار الآخرة.