نقاش هادئ (3)

  • 69

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقد ذكرنا في المقالات السابقة بدعية الاحتفال بالمولد النبوي، وأنه مخالف لإجماع الصحابة، والقرون الثلاثة الأولى؛ فضلًا عن النصوص الكثيرة من الكتاب والسنة التي تحذر من الابتداع في الدِّين، والتي تبيِّن أن الأصل في العبادات المنع والتوقف حتى يرد الدليل على الفعل؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد"، و"من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"، وتَرْك النبي صلى الله عليه وسلم حجة كما أن فعله حجة، فكما هو معلوم ومقرر عند جمهور الأصوليين: "أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا ترك فعل عبادة من العبادات مع كون موجبها وسببها المقتضي لها قائمًا ثابتًا، والمانع منها منتفيًا؛ فإن فعلها بدعة".

ويُعرف الترك بأحد طريقين:

- أحدهما: إما بتصريح الصحابي بأن النبي صلى الله عليه وسلم ترك كذا وكذا ولم يفعله، كقوله: "صلى العيدين بلا أذان ولا إقامة".

- والثاني: بعدم نقل الصحابة للفعل الذي لو فعله صلى الله عليه وسلم لتوفرت هممهم ودواعيهم أو أكثرهم، أو واحد منهم على نقله، فحيث لم ينقله واحد منهم البتة، ولا حدَّث به في مجمع أبدًا؛ عُلِم أنه لم يكن.

قال السمعاني في قواطع الأدلة: (إذا ترك النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا وجب علينا متابعته فيه؛ ألا ترى أنه لما قُدِّم إليه الضب فأمسك عنه، أمسك عنه أصحابه وتركوه، إلى أن قال لهم: "إني أعافه"، وأذِن لهم في تناوله).

ومقتضى الاحتفال بالمولد كان موجودًا، ولم يكن هناك مانع من فعله، ومع ذلك لم يُنقل فعله عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه -مع شدة حبهم له صلى الله عليه وسلم-، فكان هذا إجماعًا منهم على تركه، وعدم مشروعية فعله؛ قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: "كل عبادة لم يتعبدها أصحاب رسول الله، فلا تعبدوها، فإن الأول لم يدع للآخر شيئًا، فاتقوا الله يا معشر القراء، وخذوا بطريق من كان قبلكم".

قال ابن تيمية رحمه الله: "فإن هذا لم يفعله السلف مع قيام المقتضي له وعدم المانع منه، ولو كان هذا خيرًا محضًا أو راجحًا؛ لكان السلف رضي الله عنهم أحق به منا، فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيمًا له منا، وهم على الخير أحرص".

وقال الشاطبي رحمه الله: "لأن ترك العمل به من النبي صلى الله عليه وسلم في جميع عمره، وترك السلف الصالح له على توالي أزمنتهم قد تقدم أنه نص في الترك، وإجماع من كلِّ مَن ترك؛ لأن عمل الإجماع كنصه".

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين"؛ فهذه الطائفة لا يخلو منها زمان فضلًا عن زمان القرون الخيرية الأولى؛ فلو كان الاحتفال بالمولد النبوي من الطاعات والقربات، فهل يُعقل أن تترك هذه الطائفة والأمة جميعًا في أفضل عصورها هذه الطاعة لمدة تزيد عن مائتي عام؟!

ولا ينبغي الاختلاف على أن مَن قال بالجواز يعتقد أنها قربة وطاعة، وليس أمرًا من أمور العادات؛ لأنهم اجتهدوا في إدخالها تحت أصل شرعي، فدل ذلك على أنهم يعتبرون الاحتفال بهذه الصورة من العبادات وليس من العادات، ومن يقول غير ذلك فهو مكابر مخادع.

فعلى ذلك: مَن قال بالجواز مِن العلماء المتأخرين؛ فهو محجوج بالإجماع القديم، وبالأدلة التي ذكرها العلماء، فكان قوله من الخلاف غير السائغ.

قال الإمام الشافعي رحمه الله: (أجمع العلماء على أن مَن استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحدٍ من الناس)، فنقول في حق هؤلاء العلماء: (شيخ الإسلام حبيب إلى قلوبنا، والحق أحب إلينا من شيخ الإسلام)، وكل الأدلة التي استدلوا بها مردود عليها؛ فلا يصح الاحتجاج بها.

وللحديث بقية إن شاء الله.