وقفات مع حديث الكفالة (3)

  • 89

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فبعد ما أخذ صاحبُ الدَّين الخشبةَ ووجد فيها المال وَالصَّحِيفَة؛ فَقَرَأَهَا فَعَرَفَ، حدث ما يلي:

مُستوى عالٍ في الأمانة:

قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ثُمَّ قَدِمَ الذِي كَانَ أَسْلَفَهُ، فَأَتَى بِالأَلْفِ دِينَارٍ، فَقَالَ: وَاللهِ مَا زِلْتُ جَاهِدًا فِي طَلَبِ مَرْكَبٍ لآتِيَكَ بِمَالِكَ، فَمَا وَجَدْتُ مَرْكَبًا قَبْلَ الذِي أَتَيْتُ فِيهِ".

أمَرَ اللهُ تعالى بِرَدِّ الأمانات إلى أصحابها: قال عز وجل: "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا"، ولكن هذا الرجلُ بلغ مُستوى عالٍ في الأمانة، وتحقَّق فيه: "وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ"؛ فاجتَهَدَ في الحصول على مركبٍ ليوصِلَ المال إلى صاحبه في الموعد المحدد فلم يقدِر، فبعث به في خشبةٍ عن طريق البحر، ولَمَّا وجد مركبًا انطلق به إلى صاحب الدَّين بألفٍ أُخرى بدَلَ التي ألقى بها في البحر.

أهل الورع يخفون ورعهم:

قال النبي صلى الله عليه وسلم: "قَالَ صاحبُ الدَّين: هَلْ كُنْتَ بَعَثْتَ إِلَيَّ بِشَيْءٍ؟ قال: أَلَمْ أُخْبِرْكَ أَنِّي لَمْ أَجِدْ مَرْكَبًا قَبْلَ هَذَا الَّذِي جِئْتُ فِيهِ"؛ فلماذا لم يُصرِّح لصاحبه بحقيقة الأمر؟! لأنَّ أهل الورع يخفون ورعهم كأنه عورة! وفيه جواز استعمال المعَاريض؛ لأنه أجابَ إجابةً يُفهَمُ منها أنه لم يُرسِل إليه مالًا.

أيُّهما أشدُّ إيمانًا؟!

قال النبي صلى الله عليه وسلم: "قَالَ: فَإِنَّ اللهَ قَدْ أَدَّى عَنْكَ الذِي بَعَثْتَ فِي الخَشَبَةِ؛ فَانْصَرِفْ بِالأَلْفِ دِينَارِ رَاشِدًا"، في رواية البزار أنه لَمَّا جاء قال له صاحِبُ الدَّين: "يَا فُلانُ، مَالِي، قَدْ طَالَتِ النَّظرَةُ (أو الْفَتْرَةُ)، قَالَ: نَعَمْ، أَمَّا مَالُكَ، فَقَدْ دَفَعتُهُ إِلَى وَكِيلِي، وَأَمَّا أَنْتَ، فَهَذَا مَالُكَ فَخُذْهُ، قَالَ: ارْجِعْ، فَقَدْ أَوْفَانِي وَكِيلُكَ":

وقولُ صاحبِ المالِ: "ارْجِعْ، فَقَدْ أَوْفَانِي وَكِيلُكَ"، هذه كلمةٌ تُكتَبُ بالذَّهب لا بماء الذهب؛ لذلك عندما تُحاول المقارنة في "أيِّهِمَا آمَنُ مِن صَاحِبِه" تجد صعوبة، وتستَشعِر قول أبي هريرة رضي الله عنه كما في رواية ابن حبان، قال: "فَلَقَدْ رَأَيتُنَا يَكْثُرُ مِرَاؤُنَا وَلَغَظُنَا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ بَيْنَنَا أَيُّهُمَا آمَنُ"، والمُلفِت للنَّظر: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يفصِل في القضية -في أي روايةٍ من رواياتِ الحديث-؛ لأنَّ كليهما على درجة عالية من الإيمان.

وتأمَّل: تناقَشَ وتجادَلَ الصحابةُ بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم في أيِّهِما أشد إيمانًا؛ الذي أعطى ماله بغير مُستند أم الذي رَمَى بالخشبة في البحر؟! فنحن لو عَقَدْنا مُقارنة بينهما -مع فضل الرجلين-؛ لوجدنا أنَّ كلَّ واحدٍ منهما يتميز بعدَّةِ أمور، كما يلي:

فالرجل الذي أعطى المال يتميز بـ:

1- أنه عظَّمَ ربَّ العالمين لَمَّا ذُكر اسمُهُ عندَهُ.

2- هو الذي بدأ ببذلِ الإحسان والجميلِ؛ وذلك لَمَّا أعطى ألفَ دينارٍ بغير مُستند.

3- لم يُفتَن بالمال، ولم يُنكِر ما حدَثَ من قصة الخشبة، ولم يأكل مَالَ أخيه؛ على الرَّغم من أنَّ المال الذي كان في الخشبة هو في حكم اللُّقَطَةِ.

والذي رَمَى بالخشبة يتميز بـ:

1- أنه لَمَّا جعلَ اللهَ كفيلًا ووكيلًا كان عند وَعدِهِ (أداء الأمانة والوفاء بالوعد).

2- لم يخبر صاحبَهُ بأنه أرسل إليه المال (وهذا خُلُقُ أهل الورع).

3- حصَلَ له كرامةٌ مِن كراماتِ الأولياء، وهي: وصولُ المال إلى صاحبه في خشبة.

وهناك أمورٌ مُشتركة بين الرجلين تميَّزا بها جميعًا، منها:

1- حسنُ التوكُّل على الله مع الأخذ بالأسباب؛ توَكُّلُ الدائِنُ على الله، وأنه رضي بالله شهيدًا وكفيلًا، وتوَكُّلُ المدِينُ على ربِّهِ لَمَّا ألقى بالمال في البحر، وهذا يدلُّ على أنهما كانا أهلًا لِمَا فعله الله معهما.

2- أمانةُ الرجلين: أمانةُ المَدينِ (لَمَّا ألقى بالخشبة في البحر حتى لا يُخلِف الموعد، ثم اجتهد في البحث عن مَركبٍ حتى وصَلَ إلى صاحبِ الدَّين بألفٍ آخر)، وأمانةُ صاحبِ الدَّين (إذ أنَّه لم يأكل مَالَ أخيه، ولم يأخذ الألفَ دينارٍ الأخرى).

والحمد لله رب العالمين.