مسارات علو الهمة لنعود كما كنا خير أمة

  • 83

منازل الإيمان (منزلة المحبة)

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فمحبة الله عز وجل هي حياة القلوب وبهجة النفوس، وقرة العيون، وهي التي تعين المخلصين على إرادة وجه الله تبارك وتعالى، وهي غاية أعمال المؤمنين الأبرار والمقربين والصادقين؛ قال الله عز وجل: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ‌مَنْ ‌يَرْتَدَّ ‌مِنْكُمْ ‌عَنْ ‌دِينِهِ ‌فَسَوْفَ ‌يَأْتِي ‌اللَّهُ ‌بِقَوْمٍ ‌يُحِبُّهُمْ ‌وَيُحِبُّونَهُ"، وهي من أهم أسباب ذوق الإيمان، ومِن ثَمَّ الحياة عليه، وإدراك طعمه وحلاوته؛ قال الله عز وجل: "قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ ‌وَلَا ‌تَحْوِيلًا . أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا".

وتلك الآيات تدلنا على مسار السير إلى الله تبارك وتعالى بالخوف والرجاء والمحبة عند عباد الله الصالحين، كذلك عند النبيين والمقربين الذين يدعون إلى الله عز وجل.

وللحديث عن المحبة نتكلم عن: "(1) أسبابها - (2) موجباتها - (3) علاماتها - (4) شواهدها - (5)  ثمراتها     - (6) أحكامها".

والمحبة تدور في اللغة على خمسة أشياء: "(1) الصفاء والبياض - (۲) العلو والظهور - (۳) اللزوم والثبات - (4) اللب - (5) الحفظ والإمساك".

وهذه الخمسة من لوازم المحبة الله عز وجل؛ ومن ثَمَّ فصفاء المودة وهيجان إرادة القلب للمحبوب، وعلوها وظهورها لتعلقها بالله عز وجل، وثبوتها ودوامها ولزومها لزومًا لا تفارقه، وإعطاء العبد محبوبه عز وجل لبه وأشرف ما عنده وهو قلبه، ثم اجتماع عزماته وإرادته وهمومه على محبوبه وقرة عينه؛ رب العالمين تبارك وتعالى.

آثار المحبة وشواهدها:

(1) الميل الدائم بالقلب والجوارح إلى الله تبارك وتعالى.

(2) إيثار المحبوب رب العالمين على كل ما سواه.

(3) موافقة الله عز وجل في طاعته ومرضاته في الغيب والشهادة.

(4) استقلال الكثير من عطائك وطاعتك لربك محبوبك، واستكثار القليل من تمردك وعصيانك لله عز وجل.

(5) لا يبقى من نفس المحب لنفسه شيء، بل يهب كله لله الذي يعيدها إليه أفضل ما تكون.

ومن أجمع ما قيل في المحبة: "عبد ذاهب عن نفسه، يتصل بذكر ربه، قائم بأداء حقوقه، ناظر إليه بقلبه؛ فإن تكلم فبالله، وإن نطق فعن الله، وإن تحرك فبأمر الله، وإن سكن؛ فمع الله ولله".

كيف نتعلم المحبة؟

الأسباب الجالبة والموجبة للمحبة:

(1) قراءة القرآن على الدوام بتدبر وتفهم، ويقظة قلب وفكر.

(2) التقرب إلى الله بالفرائض والمداومة على النوافل؛ فأداء الفرائض يدل على حب العبد لربه.

(3) الاتباع والتأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال الله تعالى: "‌قُلْ ‌إِنْ ‌كُنْتُمْ ‌تُحِبُّونَ ‌اللَّهَ ‌فَاتَّبِعُونِي ‌يُحْبِبْكُمُ ‌اللَّهُ ‌وَيَغْفِرْ ‌لَكُمْ ‌ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ"، وأداء العبد للنوافل ومواظبته عليها يدل على حبِّ الرب لعبده.

(4) دوام ذكر الله على كل حال؛ لقول الله: "فاذكروني أذكركم"، وقول الله تعالى: "واذكروا الله كثيرًا لعلكم تفلحون"، فذكر العبد لربه وتوبته عليه، "ثم تاب عليهم ليتوبوا"، وقدر المحبة على قدر مقام العبد من ذكر الله عز وجل.

(5) إيثار محبة الله على كل المحاب، وإن صعب المرتقى.

(6) مطالعة الأسماء والصفات والتعبد بها؛ فإنه مَن عرف الله أحبه ولا بد.

(7) مشاهدة ومطالعة المنن، والبر والإحسان والنعم من الله عز وجل على خلقه.

(8) الانكسار والافتقار والذل بين يدي الله عز وجل.

(9) الخلوة مع الله في جوف الليل وختم ذلك بالاستغفار والتوبة.

(10) مجالسة المحبين الصادقين.

(11) البعد عن كل سبب يحول بين القلب وبين الله عز وجل.

(12) كراهية العود إلى الذنب، ويقوي ذلك بالشوق إلى الطاعة ومحبتها والمواظبة عليها.

(13) إن تعذر فعل الطاعات والنوافل في وقتها فيجب أداؤها عند القدرة عليها؛ وذلك لفعل النبي صلى الله عليه وسلم في أداء حزبه من القرآن إذا نام عليه بالليل أن يؤديه بالنهار؛ لينال العبد أجر المواظبة والدوام على الطاعة، ويؤجر عليها عند عجزه لمرض أو سفر، بل إن أجره يجري عليه بعد موته.

والعبد لا بد أن يحذر غاية الحذر من الندِّ والسوى، والشريك مع الله عز وجل في المحبة والتعظيم؛ قال تعالى: "ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادًا يحبونهم كحب الله"، وقال تعالى: "تالله إن كنا لفي ضلال مبين . إذ نسويكم برب العالمين"، وقال الله تعالى: "ثم الذين كفروا بربهم يعدلون".

فقد ذكر الله تعالى مَن اتخذ مِن دونه أندادًا -والمراد أنه ند في المحبة لا في الخلق والربوبية-؛ وأن كثيرًا من أهل الأرض قد اتخذوا من دون الله أندادًا في الحب والتعظيم، ولكن أهل الإيمان أهل المحبة "والذين آمنوا أشد حبًّا لله" محبتهم تامة خالصة صافية، بخلاف غيرهم.

وكذلك تسوية الله عند المشركين بآلهتهم لم يسووهم برب العالمين بالخلق والربوبية، بل سووهم في المحبة والتعظيم مع الله، وكذلك العدل كما في الآية الثالثة؛ أي: يعدلون به غيره في العبادة، وهي المحبة والتعظيم.

ومن هذا المنطلق نصل إلى سرِّ الوصول إلى الحياة على مذاق الإيمان، ووجود حلاوته وطعمه الذي يدفع بالعبد إلى المعالي في كل مسارات الإيمان؛ لنعود كما كنا خير أمة، وإلى بناء رجال يصدقون فيما عاهدوا الله عليه، كما في الحديث الصحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان، وذكر منها:

1- "أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما": فلا ند ولا عدل، ولا شريك مع الله عز وجل.

وكذلك مع النبي صلى الله عليه وسلم في التأسي والاتباع، وتؤكِّد الآية هذا المعني في قوله تعالى: "قل إن كنتم تحبون الله" أي: تقيموا فرائضه، وأولى الفرائض توحيد الله عز وجل، "فاتبعوني" أي: تكملوا في التأسي دون بدع، "يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم". 

2- "وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله": وذلك إذا كمل الإيمان، وعاش صاحبه على الولاء والبراء لله عز وجل؛ دون ند أو شريك أو عدل؛ إلا إرادة وجه الله والجنة، فإنه بذلك ينال محبة الله عز وجل ومغفرته.

3- وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار: وهذا من أصعب الأعمال على النفوس والقلوب؛ إلا إذا كمل الإيمان وصفا ينبوع المحبة أيضًا من العدل والشريك والسوی، وفي ترك الحرام وكراهية الكفر ما يعين على فعل الطاعات وحب الإيمان.

ومحبة القرآن ومحبة تلاوته، ولا سيما آيات الأسماء والصفات ما يجلب محبة الرحمن عز وجل كما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها في حديث أمير السرية الذي كان يقرأ: (قل هو الله أحد)؛ فأقره النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "أخبره أن الله يحبه"؛ وذلك لأنه يحب صفة الرحمن، ويصلي بسورة الإخلاص.

والقرآن والسنة مملوآن بذكر مَن يحبه الله سبحانه وتعالى مِن عباده المؤمنين، وذكر ما يحبه مِن أعمالهم وأقوالهم وأخلاقهم.

نسأل الله عز وجل أن يرزقنا حبه وحب مَن يحبه، وحب كل عمل يقربنا إلى حبه.

وصلى الله وسلم وبارك على رسول الله صلى الله عليه وسلم.