• الرئيسية
  • المقالات
  • الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (90) دين إبراهيم وهو دين جميع الأنبياء واحد وهو قائم على الوحي المُنَزَّل (10)

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (90) دين إبراهيم وهو دين جميع الأنبياء واحد وهو قائم على الوحي المُنَزَّل (10)

  • 66

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقال الله تعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا . وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ‌وَكَلَّمَ ‌اللَّهُ ‌مُوسَى تَكْلِيمًا . رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) (النساء: 163-165).

الفائدة العاشرة:

قوله سبحانه وتعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا):

قال ابن كثير رحمه الله: "هذا إخبار عن عدله تعالى، وأنه لا يعذِّب أحدًا إلا بعد قيام الحجة عليه بإرسال الرسل إليه".

وقال الشيخ الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان: "ظاهر هذه الآية الكريمة أن الله لا يعذب أحدًا من خلقه حتى يبعث إليه رسولًا ينذره ويحذره، فيعصي ذلك الرسولَ، ويستمر على الكفر والمعصية بعد الإنذار والإعذار".

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ولا يثبت الخطاب إلا بعد البلوغ لقوله تعالى: "وأوحي إلى هذا القرآن لأنذركم به ومَن بلغ"، وقوله: "وما كنا معذبين حتى نبعث رسولًا"، وقوله: "لئلا يكون للناس حجة بعد الرسل"، ومثل هذا في القرآن متعدد؛ بيَّن سبحانه أنه لا يعاقب أحدًا حتى يبلغه ما جاء به الرسول، ولا يعذبه الله على ما لم يبلغه؛ فإنه إذا لم يعذبه على ترك الإيمان إلا بعد بلوغ الحجة؛ فإنه لا يعذبه على بعض شرائعه إلا بعد البلوغ" (مجموع الفتاوى 2/ 41-42).

وقال تعالى: "وما كان الله ليضل قومًا بعد إذ هداهم حتى يبيِّن لهم ما يتقون إن الله بكل شيء عليم"؛ ففي هذه الآية بيَّن سبحانه وتعالى أنه لا يضل قومًا حتى تبلغهم الحجج البينات التي يعرفون بها ما يلزمهم أن يتقوه مما يغضب الله عز وجل. وقال تعالى: "كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير . قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير".

والآيات في هذا المعنى كثيرة كلها تدل على أن العذاب إنما يكون بعد بلوغ الحجة والنذارة التي جاءت بها رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

ومن أدلة السنة: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلتُ به إلا كان من أصحاب النار"، فمَن لم تبلغه دعوة الإسلام؛ فهو معذور، ومَن آمن به صلى الله عليه وسلم ثم لم تبلغه بعد أخباره وأوامره؛ فهو معذور كذلك.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وكنت دائمًا أذكر الحديث الذي في الصحيحين في الرجل الذي قال: "إذا أنا مت، فأحرقوني ثم اسحقوني ثم ذروني في اليم، فوالله إن قدر الله علي ليعذبني عذابًا ما عذبه أحدًا من العالمين، ففعلوا به ذلك! فقال الله له: ما حملك على ما فعلتَ؟ قال: خشيتك. فغفر له"؛ فهذا رجل شك في قدرة الله، وفي إعادته إذا ذري، بل اعتقد أنه لا يعاد، وهذا كفر باتفاق المسلمين؛ لكن كان جاهلًا لا يعلم ذلك، وكان مؤمنًا يخاف الله أن يعاقبه فغفر له بذلك" (مجموع الفتاوى، 3/ 231).

وقال رحمه الله: "كما ثبت في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي قال: "إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني ثم ذروني في اليم، فوالله لئن قَدَر الله علي ليعذبني عذابًا لا يعذبه أحدًا من العالمين، فقال الله له: ما حملك على ما فعلت؟ قال: خشيتك، فغفر له"؛ فهذا الرجل اعتقد أن الله لا يقدر على جمعه إذا فعل ذلك، أو شك، وأنه لا يبعثه، وكل مِن هذين الاعتقادين كفر يكفر مَن قامت عليه الحجة، لكنه كان يجهل ذلك ولم يبلغه العلم بما يرده عن جهله، وكان عنده إيمان بالله، وبأمره ونهيه، ووعده ووعيده، فخاف من عقابه، فغفر الله له من خشيته" (كتاب الاستقامة، ص 164- 165).

وقد نقلنا كلام ابن حزم رحمه الله في المقالة السابقة، وهذه نُقُول عن شيخ الإسلام ابن تيمية توافق ابن حزم في ذلك.

وروى أبو داود والنسائي وأحمد بإسناد صحيح على شرط الشيخين، وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود وصحيح سنن ابن ماجه، عن عائشة أم المؤمنين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بعث أبا جهم بن حذيفة مصدِّقًا فَلَاجَّهُ رجل في صدقته -أي: جادله- فضربه أبو جهم فشجه، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: القود يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لكم كذا وكذا، فلم يرضوا، فقالوا: القود يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لكم كذا وكذا فلم يرضوا، فقال: لكم كذا وكذا فرضوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني خاطب العشية على الناس فمخبرهم برضاكم، قالوا: نعم. فخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن هؤلاء الليثيين أتوني يريدون القود ففرضتُ عليهم كذا وكذا فرضوا، أرضيتم؟ قالوا: لا، فهَمَّ المهاجرون بهم، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكفوا عنهم، فكفوا عنهم، فدعاهم فزادهم، فقال: أرضيتم؟ قالوا: نعم. قال: إني خاطب على المنبر فمخبرهم برضاكم، قالوا: نعم، فخطب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أرضيتم؟ فقالوا: نعم".

قال ابن حزم رحمه الله: "وفي هذا الخبر عذر الجاهل، وأنه لا يخرج من الإسلام بما لو فعله العالم الذي قامت عليه الحجة؛ لكان كافرًا؛ لأن هؤلاء الليثيين كذَّبوا النبي صلى الله عليه وسلم، وتكذيبه كفر مجرد بلا خلاف، لكنهم بجهلهم وأعْرَابِيَّتهم عُذِروا بالجهالة فلم يُكَفَّروا" (المحلى، 10/ 410).

فهم كَذَبوا وكَذَّبوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم في قوله: "إنهم رضوا"، لكن هذا في أمر دنيوي، وهم قوم لا يعلمون ما يجوز وما لا يجوز في حق الأنبياء؛ فبذلك عُذِروا ولم يكفروا، وهذا فيه الرد على مَن يزعم أن العذر بالجهل في أمر الآخرة فقط دون أمر الدنيا، وأنه في الدنيا لا بد وأن يكفر مَن قال كفرًا أو فعل كفرًا، ولو كان مسلمًا في الأصل، وهذا كلام باطل؛ فقد دَلَّت هذه الأحاديث على إعمال العذر بالجهل في الدنيا، وفي الآخرة كذلك، ومَن لم يكن عنده "لا إله إلا الله" لم يثبت له الإيمان أصلًا، ومع ذلك وَجَب أن لا يُقاتَل أو يُقتَل حتى نبلغه: "لا إله إلا الله، محمد رسول الله"؛ فإن أَبَى، وأَبَى الجزية قُوتِل.

ودل ذلك أيضًا: على أن الكافرَ الذي لم يدخل في الإسلام، ولم تبلغه الحجة؛ لم يُقتَل في الدنيا، وإن مات على كفره قبل بلوغها؛ فإنه يُمتحَن يوم القيامة.

وعن عائشة رضي الله عنها -كما في صحيح مسلم- في حديث استغفار النبي صلى الله عليه وسلم لأهل البقيع، قالت: "مهما يكتم الناس يعلمه الله"؛ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "نعم".

قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وهذا يدل على أنها لم تكن تعلم ذلك، ولم تكن قبل معرفتها بأن الله عالم بكل شيء يكتمه الناس كافرة، وإن كان الإقرار بذلك بعد قيام الحجة من أصول الإيمان" (مجموع الفتاوى، 11/ 412).

قلتُ: وهذا الحديث يحتمل وجهين في الضبط، قالت: "مهما يكتم الناس يعلمه الله، قال: نعم"؛ كأنها تقرر ذلك، ويؤيده الرواية الأخرى: "قالت: نعم"؛ فكأنها تقرر ذلك في نفسها، ولكن الغرض هنا: نَقْلُ شيخ الإسلام ابن تيمية الذي حمله على الوجه الآخر، أنها كانت تسأل النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي قال: "نعم"، وهو جعلها بذلك جاهلة بهذا الأمر الذي لم يبلغها؛ لصغر سنها.

وللحديث بقية إن شاء الله.