• الرئيسية
  • المقالات
  • الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (91) دين إبراهيم وهو دين جميع الأنبياء واحد وهو قائم على الوحي المُنَزَّل (11)

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (91) دين إبراهيم وهو دين جميع الأنبياء واحد وهو قائم على الوحي المُنَزَّل (11)

  • 57

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقال الله تعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا . وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ‌وَكَلَّمَ ‌اللَّهُ ‌مُوسَى تَكْلِيمًا . رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) (النساء: 163-165).

الفائدة الحادية عشرة:

ومِن أدلة العذر بالجهل في التكفير والتعذيب: حديث أبي واقد الليثي رضي الله عنه: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى حُنَيْنٍ وَنَحْنُ ‌حَدِيثُو عَهْدٍ بِكُفْرٍ -وَكَانُوا أَسْلَمُوا يَوْمَ الْفَتْحِ-، قَالَ: فَمَرَرْنَا بِشَجَرَةٍ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ الله، اجعل لنا ذات أنواط كَمَا لَهُمْ ‌ذَاتُ ‌أَنْوَاطٍ، وَكَانَ لِلْكُفَّارِ سِدْرَةٌ يَعْكِفُونَ حَوْلَهَا، وَيُعَلِّقُونَ بِهَا أَسْلِحَتَهُمْ يَدْعُونَهَا ‌ذَاتَ ‌أَنْوَاطٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (سُبْحَانَ اللَّهِ! قُلْتُمْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى: (اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةً قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) (الأعراف: 138)، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَرْكَبُنَّ سُنَّةَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني).

وهذا الحديث دليل ظاهر على عدم تكفير مَن وقع في شركٍ جاهلًا، وقد أقسم النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن طلبهم كطلب بني إسرائيل من موسى عليه السلام: (اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةً)، ولا نزاع أن طلبَ عبادة غير الله شركٌ أكبر ناقلٌ عن الملة، وقد بَيَّن أبو واقد الليثي رضي الله عنه سببَ قولهم للرسول صلى الله عليه وسلم: "اجْعَلْ لَنَا ‌ذَاتَ ‌أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ‌ذَاتُ ‌أَنْوَاطٍ"، والذي غضب منه النبي صلى الله عليه وسلم وغَلَّظ عليهم فيه، وهو: أنهم حدثاء عهد بشرك، وهذا مظنة الجهل وعدم العِلْم؛ فإن كبار الصحابة رضي الله عنهم لم يقولوا ذلك، ولا سألوا النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا من الشرك.

وقد اختلف العلماء في هذا الحديث؛ هل ما وَقَع منهم هو مِن الشرك الأصغر أم من الأكبر، وقد ذَهَب شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في "كتاب التوحيد" إلى أنه مِن الشرك الأصغر، وذهب في "كشف الشبهات" إلى أنه من الشرك الأكبر، ولكن مَنَع مِن تكفيرهم: "الجهل"؛ فقال في فوائد هذا الحديث في "كشف الشبهات": "وفيه: أن المسلم، بل العَالِم قد يقع في شيء مِن الشرك، وهو لا يدري؛ فإذا نُبِّه وتاب مِن ساعته لم يكفر"، وهذا ترجيح الشيخ حامد الفقي رحمه الله في أن هذا مِن الشرك الأكبر، ومنع مِن تكفيرهم: أنهم حدثاء عهد بشرك؛ أي: الجهل هو المانع.

وهذا ظاهر الحديث، ولأنهم طَلَبوا ما يفعله المشركون، والمشركون إنما يتبرَّكون بها التبرك الشركي، وظاهر سؤالهم مثل سؤال المشركين، وعليه قَسَمُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنه مِثْلُ قولِ بني إسرائيل لموسى: (اجْعَل لَّنَا إِلَٰهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ).

وعلى أي حال؛ فإذا ثَبَت العذر بالجهل في مسائل من التوحيد، ولو كانت من باب الشرك الأصغر -مع أن هذا خلاف الظاهر-؛ فهي دليل على العذر بالجهل عمومًا، فيدخل في ذلك مسائل الشرك الأكبر أيضًا، كما فَهِم العلماء ذلك.

ومن النُّقُول في ذلك:

قول الإمام الشافعي رحمه الله: "لله تعالى أسماء وصفات، جاء بها كتابه، وأخبر بها نبيُّه صلى الله عليه وسلم أمته، لا يسع أحدًا مِن خلق الله قامت عليه الحجة ردُّها؛ لأن القرآن نَزَل بها، وصَحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم القولُ بها فيما رَوَى عنه العدول؛ فإن خالف ذلك بعد ثبوت الحجة عليه؛ فهو كافر، أما قبل ثبوت الحجة عليه فمعذور بالجهل؛ لأن علم ذلك لا يُدرَك بالعقل، ولا بالرؤية والفكر، ولا يكفر بالجهل بها أحد إلا بعد انتهاء الخبر إليه بها، ونثبت هذه الصفات، وننفي عنه التشبيه كما نَفَى عن نفسه، فقال: (‌لَيْسَ ‌كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الشورى: 11)" (نَقَل هذا القول عنه ابن حجر في "فتح الباري، 13 /407").

وقال الإمام الخطابي رحمه الله -بعد أن ذكر أن مانعي الزكاة على الحقيقة أهلُ بغي-: "فإن قيل: كيف تأولتَ أمرَ الطائفة التي مَنَعَت الزكاة على الوجه الذي ذكرت، وجعلتهم أهل بغي، وهل إذا أنكرت طائفة من المسلمين في زماننا فرضَ الزكاة، وامتنعوا عن أدائها، يكون حكمهم حكم أهل البغي؟ قلنا: لا؛ فإن مَن أنكر فرض الزكاة في هذه الأزمان كان كافرًا بإجماع المسلمين، والفرق بين هؤلاء وأولئك أنهم إنما عُذِروا لأسبابٍ وأمورٍ لا يحدث مثلها في هذا الزمان، منها: قُرْب العهد بزمان الشريعة الذي كان يقع فيه تبديل الأحكام بالنسخ، ومنها: أن القومَ كانوا جهالًا بأمور الدِّين، وكان عهدهم بالإسلام قريبًا فدخلتهم الشبهة فَعُذِروا.

وأما اليوم وقد شاع دين الإسلام، واستفاض في المسلمين عِلْم وجوب الزكاة حتى عرفها الخاص والعام، واشترك فيه العالم والجاهل؛ فلا يعذر أحدٌ بتأويل يتأوله في إنكارها، وكذلك الأمر في كلِّ مَن أنكر شيئًا مما أجمعت الأمة عليه من أمور الدِّين إذا كان علمه منتشرًا: كالصلوات الخمس، وصوم شهر رمضان، والاغتسال من الجنابة، وتحريمِ: الزنا، والخمر، ونكاح ذوات المحارم، ونحوها من الأحكام؛ إلا أن يكونَ رجلًا حديثَ عهد بالإسلام ولا يعرف حدوده، فإنه إذا أنكر شيئًا منها جهلًا به لم يُكفَّر، وكان سبيله سبيل أولئك القوم في بقاء اسم الدِّين عليه، فأما ما كان الإجماع فيه معلومًا من طريق علم الخاصة: كتحريم المرأة على عمتها وخالتها، وأن القاتل عمدًا لا يرث، وأن للجدة السدس، وما شابه ذلك من الأحكام؛ فإن مَن أنكرها لا يكفر، بل يُعذَر فيها؛ لعدم استفاضة علمها في العامة" (نقله النووي في شرح مسلم، 1 /205).

أقول: قتال مانعي الزكاة وإن كان عند الجمهور قتالَ أهل بغي؛ إلا أنهم يفارقون مَن خَرَجوا على الإمام بتأويل سائغ؛ فإن مانعي الزكاة قد قَصَّروا في طلب العلم، وليس امتناعهم مِن أداء الزكاة لأبي بكر والخروج عليه كأهل الجمل وصفين، ولا شك في ذمِّ مانعي الزكاة، ومثلهم الخوارج؛ فهم فُسَّاق وأهل بهت مستحقون للعقوبة في الدنيا والآخرة، وأما أهل الجمل وصفين وكلُّ مَن يخرج على الإمام بتأويل سائغ؛ فإنه لا يُفسَّق، ولا يجوز قتاله حتى يُسعى في الصلح؛ فإن أصرَّ على بغيه قُوتِل، فإذا انتهى القتال وَجَب الإصلاح؛ لقول الله عز وجل: (‌وَإِنْ ‌طَائِفَتَانِ ‌مِنَ ‌الْمُؤْمِنِينَ ‌اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ . إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (الحجرات: 9-10).

ولا شك أن مانعي الزكاة والخوارج لم يذكرهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مِن بعده بلفظ: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)، وإنما قال صلى الله عليه وسلم عن الخوارج: (‌كِلَابُ ‌أَهْلِ ‌النَّارِ) (رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الألباني)، وقال: (‌يَمْرُقُونَ ‌مِنَ ‌الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ) (متفق عليه)؛ فرغم أننا لا نكفِّرهم وهو قول جماهير العلماء إلا أنهم قوم بهت فساق مبتدعون، يستحقون العقوبة في الدنيا والآخرة.

ولكلام الإمام الخطابي رحمه الله فوائد أخرى، نذكرها في المقال القادم إن شاء الله.