• الرئيسية
  • المقالات
  • الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (92) دين إبراهيم وهو دين جميع الأنبياء واحد وهو قائم على الوحي المُنَزَّل (12)

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (92) دين إبراهيم وهو دين جميع الأنبياء واحد وهو قائم على الوحي المُنَزَّل (12)

  • 68

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛   

فقال الله تعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا . وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ‌وَكَلَّمَ ‌اللَّهُ ‌مُوسَى تَكْلِيمًا . رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) (النساء: 163-165).

الفائدة الثانية عشرة:

مِن فوائد كلام الإمام الخطابي رحمه الله في مانعي الزكاة:

أولًا: أحكام الشريعة تتفاوت مِن زمن إلى زمن، ومن قوم إلى قوم حسب الظهور والخفاء، فليست كلُّ أحكام الشريعة بمنزلة واحدة في كل زمن كلها ظاهرة، أو هناك منها أمور خفية، والعبرة في هذا بانتشار العلم واستفاضته في العامة، فكما كان علم وجوب الزكاة ليس منتشرًا في زمن مانعي الزكاة وقتالهم في عهد أبي بكر رضي الله عنه، والآن سار منتشرًا فهناك أمور كانت منتشرة في ذلك العهد ولم تعد منتشرة في زماننا، وبناءً على ذلك: فمَن يزعم أن العذر بالجهل يكون في الأمور الخفية فقط، كبعض مسائل الفروع دون مسائل التوحيد، ولو أقرَّ بأنها الآن غير منتشرة على الأقل في كثيرٍ من أقطار المسلمين، وأن الضلالات والبدع والشركيات هي المنتشرة؛ فقد أخطأ خطأ بينًا، ولو كان منتسبًا إلى العلم والسُّنَّة.

الفائدة الثانية من كلام الخطابي رحمه الله: الأمور المجمع عليها نوعان: أحدهما: ما انتشر علمه في الأمة، وهو الذي لا يعذر أحدٌ بتـأويل فيه، ولا يُقبل ادعاؤه الجهل به إلا بقرينة تدل على ذلك.

النوع الثاني: ما لم ينتشر علمه بين عامة المسلمين، وإنما يعرفه العلماء، فيعذر المخالف فيه في عدم التكفير لا في استحقاق العقوبة؛ لأن مانعي الزكاة الموصوف حالهم عُذِروا في عدم التكفير، وهم مستحقون للعقوبة في الدنيا والآخرة؛ في الدنيا بالقتال، وفي الآخرة بعقاب الله عز وجل لهم بما شاء، وإن كان معهم أصل الدِّين والإيمان فلا يخلدون في النار، على الصحيح الراجح من أقوال أهل العلم، وهو قول جماهير الأمة.

وسبب عقابهم في الدنيا والآخرة: تقصيرهم في طلب العلم الواجب عليهم، وعدم رجوعهم إلى العلماء من الصحابة رضي الله عنهم، وهذا شأن كل متمكِّن من طلب العلم فلم يطلبه وقصَّر في ذلك، وخالف في أمرٍ هو مقطوع به في الدِّين، ومجمع عليه، لكنه لم يصله علمه ولم تقم عليه الحجة؛ فهو آثم بتقصيره في طلب العلم وإن لم يكن خارجًا من الملة بترك طلب العلم، وإنما الإعراض المكفِّر إذا قامت عليه الحجة؛ فسد أذنيه، وأعمى قلبه؛ لأنه لا يريد أن يسمعه من فلان أو فلان، مع أن الذي يقيم عليه الحجةَ عَالِمٌ بها يبيِّن له البيِّنات من نصوص الكتاب والسنة.

وقد أخطأ خطأ بيِّنًا مَن جعل المتمكِّن من طلب العلم لا عُذْر له في التكفير، كما قاله بعض المعاصرين مِن المتكلمين والقائلين بالعذر بالجهل، لكن يجعلونه فيمَن لم يتمكَّن من طلب العلم، وبعض المشايخ يكفِّرون مَن يقعون في الشرك في بلادٍ كثيرةٍ بوجود بعض الدُّعَاة، وأنهم لو سألوا بعض الدعاة لأجابوهم! فإذ لم يسألوهم وظلوا على حالهم مِن اتباع علماء السوء، وأحبار السوء الذين يزيِّنون لهم الشرك؛ فزعم أنهم غير معذورين!

وهذا القول غير سديد؛ فالخوارج قد كانوا مستحقين للعقوبة في الدنيا والآخرة، وهم كلاب النار كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وعلي رضي الله عنه هو الذي ناظرهم، ثم ابن عباس رضي الله عنهما، ومع ذلك فلم يكفِّرهم علي رضي الله عنه، وسلوكه مع الخوارج كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية يدل على أنه لم يكن يكفرهم، بل قال مِن الكفر فروا، وإن كانوا مستحقين للعقوبة؛ لعدم رجوعهم إلى أهل العلم وسؤالهم إياهم، مع أن الأقوال التي قالها الخوارج هي في الحقيقة هي أقوال كفرية، لكن المُعَيَّن الجاهل أو المتأول لا يُكفَّر عند الصحابة ومَن بعدهم مِن أئمة العلم، كما نقلنا كلام الخطابي عن مانعي الزكاة، ومثلهم الخوارج، وكذلك الرافضة كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ إلا الغلاة منهم؛ فإنهم مخالفون للمعلوم من الدِّين بالضرورة، بوحدانية الله وإلهيته وعدم إلهية أحدٍ من البشر، أو نبوة أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم، إلا عيسى ابن مريم عليه السلام.

فقد روى البخاري معلقًا في كتاب الحدود في باب: "هل يأمر الإمام رجلًا فيضرب الحد غائبًا عنه": أن رجلًا زنا بجارية امرأته فجلده عمر ولم يرجمه؛ فدلَّ هذا دلالة واضحة على استحقاقه العقوبة؛ لتقصيره في طلب العلم، لكنه ليس كافرًا إذ جهل أن إحلال امرأته جاريته له وهي على ملكها لا يحلها له، فمنع إقامة حدِّ الزنا وهو محصن لأجل الجهل، وجلده مائة، وهذا فيمَن كان جاهلًا بحرمة الزنا بهذه الطريقة، وليس جاهلًا قدر العقوبة كماعز، فإن ماعزًا كان جاهلًا بقدر الحد، وظن أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لن يقتله، وقال: "يا قوم ردوني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن قومي غروني، وقالوا: إن رسول الله ليس بقاتلك"، لكنه كان يعلم الزنا وحرمته، فقال: "أتيتُ منها حرامًا ما يأتي الرجل من امرأته حلالًا".

الفائدة الثالثة: الأصل فيما انتشر علمه بين المسلمين تكفير منكره؛ إلا أن تدل القرينة على عدم علمه، مثل أن يكون نشأ ببادية بعيدة أو بلاد لم ينتشر فيها العلم، وليس المقصود بالبادية الحصر، بل كل بلد لم ينتشر فيها العلم فيه بمسألة معينة فلا يكفَّر منكرها، وكذلك إذا كانت هناك قرينة قُرب العهد بالإسلام، وكذلك قرينة انتشار البدع والضلالات في بلاد نشأ الناس فيها عليها ولا يعرفون الحق الذي يناقض ما هم عليه؛ فهؤلاء لا يُكفَّرون قبل قيام الحجة.

قال ابن قدامة رحمه الله في المغني: "لا خلاف بين أهل العلم في كفر مَن تركها -أي: الصلاة- جاحدًا لوجوبها إذا كان ممَّن لا يجهل مثلُه ذلك" (قلتُ: وهذا هو المهم في هذه المسألة؛ أن يكون مثله يجهل ذلك أم لا، ولم يقل: إذا كان ممَّن لا يجهل هو ذلك؛ وذلك لأن مَن تأول في المعلوم من الدِّين بالضرورة تأويلًا لا يُقبل؛ لأن مثله لا يجهل ذلك، لا يكون معذورًا).

فإن كان ممَّن لا يعرف الوجوب كحديث الإسلام، والناشئ بغير دار الإسلام أو بادية بعيدة عن الأمصار وأهل العلم لم يُحكم بكفره، وعرِّف ذلك وتثبت له أدلة وجوبها، فإن جحدها بعد ذلك كفر، وإما إذا كان الجاحد ناشئًا في الأمصار بين أهل العلم فإنه يكفَّر بمجرد جحدها" (انتهى من المغني لابن قدامة، 10/ 82).

ونحب أن ننبِّه هنا: على أن مَن أنكر وجوبَ الصلوات الخمس، وقال بوجوب صلاتين فقط في اليوم اعتمادًا على إنكار السُّنَّة؛ فهو كافرٌ بلا نزاعٍ بين أهل العلم.