حرب العاشر من رمضان - السادس من أكتوبر كأنك تراها (13)

  • 98

ثغرة الدفرسوار

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فبعد مضي نصف قرن هجري من الزمان على حرب العاشر من رمضان 1393 إلى رمضان 1443 هـ - السادس من أكتوبر، رَحَل -أو يكاد- مَن حضروا هذه الحرب أو عاصروها؛ فلزم علينا أن نذكِّر الأجيال الجديدة بهذه الحرب المجيدة، وما قدَّم المصريون فيها مِن تضحياتٍ، وما بذلوه من جدٍّ واجتهاد في قوة تحمُّل وصبر، وإخلاص وصدق حقَّقوا به مجدًا كبيرًا في ظروف أسوأ وأصعب بكثيرٍ مِن الظروف التي نعاني منها حاليًا؛ إنها روح العاشر من رمضان - السادس من أكتوبر التي نفتقدها الآن، ونحن أحوج ما نكون إليها.

عانى العدو الإسرائيلي من وضع سيئ للغاية بعد نجاح الجيش المصري في عبور قناة السويس، وتحطيمه لخط بارليف، والتوغل داخل سيناء لعدة كيلو مترات، ثم التصدي بنجاح للهجوم المضاد الكبير بعد أن استكمل الجيش الإسرائيلي تعبئة الاحتياطي.

وبات واضحًا عدم قدرة الجيش الإسرائيلي -وهو كامل- على إعادة الجيش المصري إلى غرب القناة، وكان على العدو الإسرائيلي أن يحقق أي نصر ولو جزئيًّا يغيِّر شيئًا من موازين القوى، يمكن معه تحسين الصورة أمام الشعب الإسرائيلي، وإعطاء قدر من القدرة على الضغط حال الدخول في أي مباحثات قادمة تعقب وقف إطلاق النار المتوقع فرضه من الدول الكبار في مجلس الأمن، وهو القرار الذي لن تستطيع أمريكا أن تؤخر صدوره طويلًا.

فكانت فكرة تنفيذ خطة عملية عسكرية قديمة تسمَّى: (الغزالة)، تقوم على تركيز هجوم قوي على أحد أجناب الجيش المقابل؛ لإحداث ممر يسمح بعبور قوات إلى خلف الجيش المقابل والالتفاف من خلفه وضربه من ورائه، وهي الخطة التي تحمَّس لها الجنرال شارون كأمل أخير لإنقاذ الجيش الإسرائيلي وعبور قوات إسرائيلية للقناة لتقوم بتدمير ما يمكن تدميره من قواعد حائط الصواريخ المصرية غرب القناة، لاستعادة القوات الجوية الإسرائيلية تفوقها ولو بصورة جزئية، واحتلال مدينة الإسماعيلية، بما يعطي للجيش الإسرائيلي تفوقًا ولو جزئيًّا يكون ورقة تصلح لإجبار مصر على التفاوض، والتراجع عن التمسك بما حررته من أرض سيناء، ولكن كان القيام بهذه العملية مجازفة كبيرة؛ نظرًا لقوة دفاع الجيش المصري شرق القناة، ولوجود قوات مصرية متمركزة كاحتياطي إستراتيجي غرب القناة، وهي قوات يمكنها بسهولة القضاء على أي قوات إسرائيلية تعبر القناة، ويمكنها وأد أي عملية إبرار بالمظلات تتم لأي قوات إسرائيلية غرب القناة.

وكان هذا كافٍ لتردد القيادات الإسرائيلية في القيام بهذه العملية رغم الحاجة الشديدة إليها، لكن كان لتطور الأحداث دور كبير في الإقدام على القيام بهذه العملية؛ فوصول الإمدادات العسكرية الأمريكية الكبيرة عبر الجسر الأمريكي الجوي والبحري بداية من الثالث عشر من أكتوبر، ونزول هذه الإمدادات من ميناء العريش إلى أرض المعركة مباشرة، والذي عوض في وقت قصير الجيش الإسرائيلي عن كلِّ ما خسره وفقده خلال أيام الحرب الأولى من الطائرات والدبابات، ويضمن للجيش الإسرائيلي التفوق العسكري الكبير على الجيش المصري من جديد، خاصة مع تزويد الجيش الإسرائيلي بأحدث ما لدى أمريكا وحلف شمال الأطلنطي من صواريخ متطورة ومدفعية متقدمة، ثم كان تحرك فرقتين مصريتين من القوات الاحتياطية غرب القناة إلى شرق القناة لدعم تطوير الهجوم المصري تجاه المضايق يوم 14 أكتوبر، والذي أخل بالتوازن العسكري للجيش المصري، وقلل من مخاطر ما بعد عبور القوات الإسرائيلية وتوغلها غرب القناة.

وجاء رصد طائرة التجسس الأمريكية لوجود فاصل وثغرة بين الجيشين الثاني والثالث المصريين غرب القناة وإبلاغ القيادات الإسرائيلية بذلك؛ ليزيد من التطلع لتنفيذ هذه العملية كحل وحيد لإنقاذ إسرائيل مما وصلت إليه وإحداث تغيير في موازين القوى من جديد.

وعليه قام الجيش الإسرائيلي لإحداث ثغرة في القوات المصرية عند منطقة الدفرسوار وتأمينها لعبور قوات إسرائيلية القناة بتركيز هجوم قوي على الكتيبة 16 المصرية غرب القناة لإجلائها عن مواقعها في المنطقة، وخلال الانشغال بالمعارك الشديدة مع العدو في هذه المنطقة تمكَّنت بالفعل قوة إسرائيلية صغيرة من العبور لغرب القناة، وفتح طريق لعبور وانتشار قوات إسرائيلية أخرى غرب القناة، وتدميرها لبعض قواعد صواريخ الدفاع الجوي المصري غرب القناة، وتهديد مدينة الإسماعيلية، بل ومحاولة احتلالها.

كيف بدأت الثغرة؟

 - في مساء يوم 15 أكتوبر وتحت ستر أعمال القتال بين القوات الإسرائيلية مع الفرقة 16 المشاة مساء عبرت تحت جنح الظلام مجموعة قتال إسرائيلية صغيرة قناة السويس في منطقة شمال البحيرات المرة.

- وكان في الليلة السابقة للتسلل قد تم الدفع بمجموعات استطلاع في قوارب مطاطية.

- تم إبرار سريتي مظلات محملة على طائرات هليكوبتر ليلة 15 / 16 أكتوبر.

- تم عبور سرية مظلات محملة على عربات مدرعة برمائية م 113 عند اتصال البحيرات المرة مع قناة السويس، ثم عبور 5 دبابات من اللواء 421 المدرع الإسرائيلي.

- تبدأ مجموعة التسلل الإسرائيلية في مهاجمة بعض قواعد الصواريخ أرض / جو مع أول ضوء يوم 16 أكتوبر لفتح ثغرة في دفاعنا الجوي، كما تهاجم القواعد الإدارية لإرباك الخطوط الخلفية لقواتنا، ساعدها في ذلك قلة كثافة الدفاع في المنطقة.

- وتحت ستر الأعمال القتالية شرق القناة تبدأ طلائع مجموعة العمليات رقم 45 بقيادة أريل شارون والمكونة من 3 لواءات مدرعة، أرقام: 14، 600 ،421، معها اللواء المظلي المحمول على عربات م 113 في عبور القناة خلف مجموعة التسلل على معديات حاملات دبابات برمائية ثم على كباري للعبور أمكن للمهندسين الإسرائيليين أقامتها اعتبارًا من ليلة 16/ 17 أكتوبر، ويستمر عبور تلك القوات لعدة ليال (راجع في ذلك: "رحلة الساق المعلقة"، ص 248-252).

- يتمكَّن العدو يوم 18 أكتوبر من إقامة كوبري في منطقة الدفرسوار، تتم عليه عمليات الإمداد بالاحتياطات والذخيرة، وفي نفس اليوم يتم عبور اللواء 217 المدرع الإسرائيلي الذي عمل في منطقة فايد غرب القناة.

أسباب نجاح تسلل القوات الإسرائيلية غرب القناة:

يذكر العميد أركان حرب عادل يسري أن نجاح القوات الإسرائيلية في التسلل إلى غرب القناة يرجع إلى:

أ- اختيار العدو منطقة مفصل الجيش الثاني والثالث حيث تقل كثافة القوات، وارتكازه على البحيرات المرة لتأمين جانبه الأيسر.

ب- تحديد نقطة عبوره في منطقة الدفرسوار القوية ومطار الدفرسوار المهجور، وكان قد تم إخلاء هذه المنطقة تقريبًا في أثناء إعادة تجميع قواتنا عدا بعض الوحدات الإدارية، وبعض قواعد الصواريخ وعناصر خفيفة للتأمين.

ج- نجاحه في تدمير بعض قواعد الصواريخ، وبالتالي أمكنه فتح ثغرة في دفاعنا الجوي يمكن أن تنفذ منها طائراته. 

د- تأخر وصول المعلومات التي وردت عن عبور مجموعة عمليات التسلل، وبالتالي عدم اتخاذ إجراءات كافية لتدميرها في المراحل الأولى.

هـ- صعوبة عمل عناصر الاستطلاع في منطقة التسلل، وعدم إمكانها متابعة عملية العبور الإسرائيلي والانتشار غربا نظرا لطبيعة المنطقة.

و- ضعف الهجمات المضادة وقصفات نيران المدفعية التي وجهت ضد مجموعة التسلل في البداية أدَّى إلى نجاحها واستمرارها. (راجع كتاب: "رحلة الساق المعلقة" للعميد أركان حرب عادل يسري، ط. الهيئة المصرية العامة للكتاب ط. 1978م، ص 258 - 259).

 - تتعرض كتيبة دبابات إسرائيلية للحصار داخل رأس كوبري الفرقة المصرية، فيقوم اللواء 14 المدرع الإسرائيلي في الساعة الثانية بعد منتصف ليلة 16 / 17 أكتوبر بمحاولة اختراق القوات المصرية والوصول إلى الكتيبة المحاصرة، ويضطر العدو بعد إخفاق الهجوم المضاد إلى سحب اللواء بعيدًا جنوب تل سلام بحوالي 6 كم لتعويض ما خسره.

- ويبدأ العدو مع أول ضوء النهار قصف المدفعية والطيران، ويهاجم الفرقة 16 المشاة بدبابات من اللواء الإسرائيلي المدرع 460 واللواء 600 المدرع مدعمة بالمشاة الميكانيكية من جوار القناة باتجاه الدفرسوار في اتجاه الشمال، وبعد معارك رهيبة وخسائر فادحة للعدو ينجح العدو في الاتصال بالكتيبة المحاصرة وإزاحة الفرقة 16 شمالًا 4 كم، ويقوم بتأمين جزء من الساتر الترابي، ويتمسك العدو بهذا الجزء لتأمين عبور المجموعة 45 قتال لعبور القناة.

- ومع بلوغ الساعة العاشرة صباح يوم 17 أكتوبر أصبح للعدو في غرب القناة كتيبتا دبابات من اللواء 421، وكتيبتا مظلات محمولة على عربات مدرعة م 113 برمائية.

- وفي هذا اليوم 17 أكتوبر تولى اللواء عبد المنعم خليل قيادة الجيش الثاني الميداني بديلًا عن اللواء سعد الدين مأمون لمرضه.

خطة وسير أحداث الثغرة:

- قامت خطة العدو للقيام بثغرة الدفرسوار على:

- تشكيل مجموعة عمليات رقم 252 بقيادة الجنرال (كالمان ماجن)، الذي حَلَّ محل جنرال (ماندلر) بعد مقتله، وتتكون المجموعة من خمسة لواءات: لواءين مدرعين، ولواءين مشاة ميكانيكي، ولواء مشاة عادي، ومهمة هذه المجموعة هي تثبيت القوات المصرية في رؤوس كباري الفرق والقيام بهجمات مضادة عليها.

تشكيل مجموعتين لتنفيذ الثغرة:

 أ- مجموعة العمليات رقم 45 بقيادة الجنرال (آريل شارون)، وتتكون من ثلاثة ألوية مدرعة، ولواء مظلي محمول على مركبات مدرعة برمائية م 113، ومهمة هذه المجموعة هي قتال الفرقة 16 المشاة ودفعها شمالًا لفتح الثغرة، وتأمين إنشاء المعابر، ورأس جسر غرب القناة، وهذه المجموعة بدأت مهمتها اعتبارًا من ليلة 14/ 15 أكتوبر.

ب- مجموعة العمليات رقم 131 بقيادة الجنرال (إبراهام آدان) وتتكون من ثلاثة ألوية: لواءين مدرعين، ولواء مشاة ميكانيكي، ومهمة هذه المجموعة تطوير الهجوم، وعزل وقطع خط الإمداد عن القوات المصرية شرق القناة. 

- نجح العدو في إحداث ثغرة والتسلل والانتشار غرب القناة، رغم أن ذلك كلَّفه خسائر فادحة، ولكن كانت هذه الثغرة في نظر قيادات العدو هي الخيار الوحيد الباقي أمامهم لإحداث تغيير على أرض المعركة يعيد لهم بعض التوازن العسكري.

-  في يوم 18 أكتوبر صار مجموعُ القوات الإسرائيلية لواءين مدرعين، ولواء مظلي غرب القناة.

- بدأت الهجمات المصرية المضادة ضد قوات العدو في الثغرة يوم 18 أكتوبر من خلال قصف بالمدفعية والصواريخ خاصة على رأس الجسر غرب القناة.

- حاول العدو الانتشار غربًا بسرايا مختلطة ومشاة ميكانيكية، وقام بمهاجمة الوحدات الإدارية وقواعد الصواريخ، وحاول التمسك بمفارق الطرق والهيئات الحيوية.

- يضغط العدو بقوة في يوم 19 أكتوبر لتأمين المعابر التي أنشأها في منطقة الدفرسوار، ويتوالى تدفق قواته عبر القناة فيزداد حجم قوات العدو في غرب القناة.

في يوم 20 أكتوبر يصبح للعدو 4 ألوية مدرعة، ويركِّز العدو هجماته الجوية لمعاونة أعمال قتال قواته غرب القناة، بينما توالي قواتنا الجوية والمدفعية ضرب القوات الإسرائيلية غرب القناة.

- إلى جانب استمرار الهجمات المضادة المصرية يتم الدفع بمجموعات من الصاعقة والمظلات المصرية داخل منطقة انتشار القوات الإسرائيلية حيث كبَّدتها خسائر رهيبة.

- ينتقم العدو لخسائره الفادحة في العتاد والأفراد بجمع أعداد من الفلاحين والمدنيين المصريين كأسرى كي يساوم بهم على تبادل طياري الفانتوم الأسارى لدى القوات المصرية.

- يتم تدمير الجسر الإسرائيلي والمعديات عدة مرات، ولكن العدو يتحمل كل هذه الخسائر في مقابل إثبات وجوده غرب القناة؛ حفاظًا على الروح المعنوية داخل قواته، وكحركة إعلامية أمام وكالات الأنباء العالمية، وكوسيلة للضغط في أي مفاوضات سياسية قادمة.

- في يومي: 21 و22 أكتوبر يحاول العدو تصفية وإزالة رأس كوبري الفرقة 16 المشاة، فيقوم بهجمات مضادة مركزة بقوة كبيرة من الدبابات على الجانب الأيمن للفرقة 16 شرق القناة بعد تمهيد نيراني عنيف بنيران المدفعية والطيران لمدة طويلة في محاولة لاسترداد نقطة الطالية القوية والنقطة 57؛ لتأمين قواته في الغرب، وللوصول إلى مشارف مدينة الإسماعيلية لكنه يخفق وتزداد خسائره.

- تنجح كتيبة دبابات للعدو في اختراق كتيبة لقواتنا مجاورة للقناة، وتندفع لمهاجمة نقطة الطالية القوية من الغرب في الوقت الذي يتم مهاجمة نقطة الطاليا أيضًا من الجنوب، وتنجح سرية دبابات للعدو في التسلل إلى داخل رأس كوبري الفرقة وتتقدم جهة نقطة الطالية من الخلف، وسرعان ما تتصدَّى لها وتشتبك معها كل أسلحتنا المضادة للدبابات، ومنها: مركبات (ب م ب) المدرعة من مواقعها التي كانت مختفية فيها، فيتم تدمير سرية دبابات كاملة للعدو، منها: 3 دبابات تركها العدو سليمة وبعض الأسرى، بينما سارعت قوة العدو الرئيسية بالفرار بعيدًا.

- تبدأ قواتنا في حشد قوات تفوق قوات العدو بعد وصول إمدادات عربية جديدة من الجزائر والمغرب، وتستعد قواتنا لتدمير رأس الجسر الإسرائيلي غرب القناة، بينما تبدأ قواتنا في شرق القناة في الضغط تمهيدًا لإزالة الممر المؤدي إلى رأس الكوبري الإسرائيلي شرق القناة، لكن يصدر قرار مجلس الأمن بوقف إطلاق النار صباح يوم 22 أكتوبر.

- رغم صدور قرار وقف إطلاق النار وقبول مصر وإسرائيل تنفيذه تتسلل مجموعات سرايا ومشاة ميكانيكية إسرائيلية متجنبة قتال قواتنا، وتنتشر في حيز واسع أكبر كثيرًا من حجمها لمجرد إثبات وجودها في أكبر مساحة من الأرض غرب القناة ممكنة للتأثير في أي مفاوضات قادمة أو اتفاقيات توقع بعد ذلك.

- رغم قرار وقف إطلاق النار حاولت قوات العدو الاستيلاء على مدينة السويس، لكنها تفشل أمام قوة المقاومة الشعبية للمدينة، وتباد القوة الإسرائيلية التي قامت بدخول السويس فيتوقف العدو عن مهاجمة المدينة مكتفيا بالالتفاف حولها من الخارج.

- يتم حشد قوات مصرية في غرب القناة أكثر من قوات العدو، ويتم الاستعداد لتصفية وإزالة القوات الإسرائيلية الموجودة غرب القناة بعد وضع خطة لتدميرها، ومع شعور العدو بجدية الموقف المصري وخطورة موقفه يتم الاتفاق المبدئي على انسحاب العدو من غرب القناة. (راجع في ذلك: "رحلة الساق المعلقة"،  ص 260 - 270).

أحلام شارون:

كان الجنرال شارون قائدًا لجبهة سيناء حتى أحيل للتقاعد في يوليو 1973م، ومع وقوع حرب أكتوبر تم استدعائه من جديد، ومع الانهيار الذي أصاب قيادة الجبهة في سيناء بقيادة الجنرال جونين قائد الجبهة لحداثة خدمته بجبهة سيناء وقلة خبرته بها؛ توجهت الأنظار إلى شارون لسابق عمله وخبراته في القيادة والتدريب على هذه الأرض.

وكان شارون يحلم بتحقيق خطته التي كانت قائمة من قبل حرب أكتوبر والمعروفة بالغزالة التي درَّب قواته عليها لتنفيذها عند الحاجة إليها، فرأى الفرصة قد واتته لتنفيذها، وهو ما ترددت القيادات الإسرائيلية في الموافقة عليه لوجود احتياطي جيد للجيش المصري غرب القناة، ولكن مع عبور فرقتين مصريتين من غرب القناة إلى شرقها، ومع رصد ثغرة بين الجيشين: الثاني والثالث، وبعد الفشل في اقتحام دفاعات الفرقة 16 مشاة؛ لم يجد شارون إلا أن يعبر من جهة البحيرات المرة الكبرى متجنبًا الدفاعات المصرية الشرسة في المزرعة الصينية؛ فاندفع بمجموعة قتال من سرية دبابات ومشاة خلف رأس كوبري الجيش الثاني الميداني حيث هاجم بعض قواعد صواريخ الدفع الجوي، ونجح في عمل ثغرة في حائط الصواريخ تسمح بهجمات محدودة للطيران الإسرائيلي على القوات المصرية على القناة لأول مرة.

كما هاجمت قوات شارون بعض مواقع المدفعية المصرية غرب القناة لحرمان قوات رأس الكوبري من المعاونة النيرانية من البر الغربي، واندفع بعدها شارون لاحتلال مدينة الإسماعيلية؛ فهي الهدف الإستراتيجي للثغرة، ولكنه فوجئ بقتال شرس وعنيد من قوات الصاعقة المصرية غرب القناة في منطقة الدفرسوار ومنطقة الجناين، والذين كانوا يظهرون في كل مكان وسط زراعات المانجو، والذين ألحقوا بقوات شارون خسائر كبيرة في المعدات والأفراد، بل وأصابوا شارون نفسه؛ مما استلزم نقله للعلاج داخل إسرائيل، مما أجبر شارون على إعادة ترتيب أوراقه والاندفاع بقواته جنوبًا تجاه السويس ليكون هدفه مدينة السويس بدلًا من الإسماعيلية، ولم يركب شارون بعد إصابته طائرة الإخلاء لنقله للعلاج إلا بعد تأكده من بدء تحرك قواته نحو السويس. 

ومن الناحية العسكرية: فالثغرة كانت محكومًا عليها بالفشل الذريع في حال عدم عبور فرقتي الاحتياطي المصري إلى شرق القناة للمساهمة في تطوير الهجوم المصري يوم 14 أكتوبر، ومع توقف الهجوم المصري بانتهاء يوم 14 أكتوبر وعودة القوات المصرية إلى مواقعها قبل الهجوم، كان من الواجب إعادة فرقتي الاحتياط إلى غرب القناة، كما كانت حفاظًا على التوازن العسكري، وهذا يعني بالتالي عدم نجاح أي تسلل أو عبور للقوات الإسرائيلية عاجلًا أو آجلًا، وهذا ما لم يحدث (راجع في ذلك: "حائط الصواريخ في أكتوبر 1973" للواء أركان حرب محمد سعيد علي، ص 350)

ومع ذلك، ومع بداية حدوث الثغرة صدرت الأوامر من القيادة المصرية بتحرك اللواء 25 مدرع المتواجد مع الجيش الثالث شرق القناة بالتحرك من رأس كوبري الجيش الثالث في اتجاه الدفرسوار على البر الشرقي للقناة؛ لإغلاق الثغرة الموجودة بين الجيشين: الثاني والثالث؛ بما يعني قطع طريق العودة أو الإمداد عن القوات الإسرائيلية الموجودة غرب القناة، بما يمكن معه تدمير الثغرة بالكامل، ولكن قبل وصول اللواء 25 إلى رأس كوبري الجيش الثاني -والذي كان يتقدَّم ببطء وحذر شديد- حدثت المفاجأة؛ أن سبق وصولها بساعة واحدة وصول كتيبة دبابات إسرائيلية بقيادة الملازم أول احتياط (جوفي) مزودة بالصواريخ الأمريكية المضادة للدبابات من طراز (تو) ذات الدقة العالية في تدمير الدبابات، والتي تم سحبها من الوحدات الأمريكي العاملة في ألمانيا ونقلها جوًّا إلى سيناء، ثم تدريب أطقم من جنود الاحتياط عليها سريعًا والدفع بها في المعركة، ففاجأت الكتيبة الإسرائيلية اللواء 25 مدرع وضربته وأوقفته؛ نظرًا لدقة الإصابة العالية للصواريخ الأمريكية الجديدة، والتي كانت مفاجأة للمصريين.

ثغرة الدفرسوار في نظر الخبراء العسكريين: 

في مناظرة علمية حول حرب أكتوبر على قناة (بي بي سي) البريطانية عام 1975 بين شارون والخبير العسكري دكتور سمير فرج، قام بالتحكيم فيها أساتذة من المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية في لندن، ذكر خبراء مركز الدراسات الإستراتيجية في المناظرة: أن قرار الدفع باللواء 25 كان سليمًا، ولو كانت سرعة اللواء منذ خروجه من رأس كوبري الجيش الثالث أفضل لتم إنهاء الثغرة، ولولا تدخل كتيبة الملازم جوفي بصواريخه الأمريكية لفشلت العملية بأكملها.

وتعليقًا على خطة الثغرة، انتقد خبراء المعهد الدولي عملية الثغرة؛ لأن شارون لم يؤمِّن بداية عبوره بأي قوات، وأن العملية برمتها أشبه بعملية خاصة يمكن أن تنفذها وحدات خاصة، ولا تعد عملية عسكرية رئيسية لها هدف الاستيلاء على مدينة ذات أهمية إستراتيجية من مدن القناة، بل هي مغامرة غير محسوبة وغير مؤمنة، وذكر خبراء المعهد أن خسائر إسرائيل في معركة الدفرسوار فقط تساوي خسائر إسرائيل كلها في حرب 1956 و1967، وأن مَن أطلق على شارون الجنرال الدموي لم يكن مخطئًا (راجع في ذلك مقالة: "المناظرة التي هزت عرش قائد الثغرة" للدكتور سمير فرج -جريدة الأهرام- عدد 5 أكتوبر 2018 م، ص 4).      

لماذا قَبِل العدو الانسحاب شرقًا؟

ذَكَر العميد أركان حرب عادل يسري أن انسحاب العدو الإسرائيلي جاء لأمور عديدة، منها:

- أن عملية الثغرة كانت عملية إعلامية أكثر منها عسكرية.

- طول خطوط إمداد العدو من قواعده الخلفية، والتي وصلت لأكثر من 300 كيلو متر.

- تعاظم القوات المصرية المحاصرة لرأس الجسر الإسرائيلي، وتفوقها من حيث المقارنة مع قوات العدو، بما يتيح لها -حال القيام بالهجوم- تدمير القوات الإسرائيلية.

- تزايد الخسائر الإسرائيلية في العتاد والأفراد يومًا بعد يوم نتيجة لعمليات المقاومة المستمرة والقصف المستمر لقوات العدو غرب القناة، والتي تحولت مع الوقت إلى حرب استنزاف للعدو؛ خاصة بعد رتق الثقب الذي حدث في دفاعنا الجوي مع بداية الثغرة؛ مما قلل من دور وتأثير الطيران الإسرائيلي في مساندة قوات العدو غرب القناة (راجع في ذلك: "رحلة الساق المعلقة"، ص 270 - 271)