فأقم وجهك للدين حنيفًا (4)

  • 73

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فهذه الآية المجيدة: (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) (الروم:30)، تَصْرِيحٌ بِأَنَّ اللَّهَ عز وجل خَلَقَ النَّاسَ سَالِمَة عُقُولُهُمْ مِمَّا يُنَافِي الْفِطْرَةَ مِنَ الْأَدْيَانِ الْبَاطِلَةِ، وَالْعَادَاتِ الذَّمِيمَةِ، وَأَنَّ مَا يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ مِنَ الضَّلَالَاتِ مَا هُوَ إِلَّا مِنْ جَرَّاءِ التَّلَقِّي وَالتَّعَوُّدِ، وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، أَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تُنْتِجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ -أي: مكتملة الأعضاء- هَلْ تَحُسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ؟ -يعني مقطوعة الأطراف كالأنف، ونحوه- حَتَّى تَكُونُوا أَنْتُمْ تَجْدَعُونَهَا"، ثُمَّ يَقُولُ أبو هريرة: اقْرَءُوا: (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ).

ولذلك يأمر الله عز وجل عباده أن يقيموا وجوههم لله، وأن يخلصوا دينهم له؛ فإنه مقتضى الفطرة التي فطرهم عليها، وتحقيق للعهد والميثاق، وأداء لشهادة الحق التي أشهدهم عليها، وهكذا كانت البشرية الأولى أو ذرية آدم -عليه السلام-، من وقته إلى مبعث نوح -عليه السلام- وكان بينهما عشرة قرون كلهم على الإسلام والتوحيد، ثم اختلفوا في زمن نوح عليه السلام حين زيَّن لهم الشيطان أن يصوروا تصاوير لرجال صالحين -وَدّ وسُوَاع ويَغُوث وَيَعُوق وَنَسْر- كتلك القباب التي تنصب اليوم على مقابر الصالحين، وكان الهدف منها في البداية أن تذكرهم تلك التصاوير بأولئك الصالحين لتشتد عبادتهم لله.

ثم بدأ الناس في الجيل الذي يليه -بعد ما نُسِخ العلم ومات أولئك- يتوسلون بها إلى الله ويجعلونها واسطة، كما يجري اليوم ممَّن يستغيث بالأموات وينادونهم ويجعلونهم -بالباطل- واسطة بينهم وبين الله عز وجل، فوقعوا في الشرك؛ إذ توجهوا للأموات ينادونهم من دون الله، فيدعونهم مع الله أو مِن دونه، ويصرفون لهم العبادة، فيقولون: (مدد يا فلان... ! - اشفني يا فلان...!) قال تعالى: (أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ) (الزمر: 3).  

ولذا حرص الإسلام العظيم على سدِّ كل ذريعة قد تؤدي إلى الشرك ولو كان شركًا أصغر في اللفظ -وصاحبه لا يقصد الإشراك-؛ قال ابن القيم رحمه الله في كتابه إعلام الموقعين: "قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَقُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ مُحَمَّدٌ، وَذَمَّ الْخَطِيبَ الَّذِي قَالَ: مَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ، وَمَنْ عَصَاهُمَا فَقَدْ غَوَى؛ سَدًّا لِذَرِيعَةِ التَّشْرِيكِ فِي الْمَعْنَى بِالتَّشْرِيكِ فِي اللَّفْظِ، وَحَسْمًا لِمَادَّةِ الشِّرْكِ حَتَّى فِي اللَّفْظِ؛ وَلِهَذَا قَالَ لِلَّذِي قَالَ لَهُ: مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْت: أَجَعَلْتنِي لِلَّهِ نِدًّا؟ فَحَسَمَ مَادَّةَ الشِّرْكِ، وَسَدَّ الذَّرِيعَةَ إلَيْهِ فِي اللَّفْظِ كَمَا سَدَّهَا فِي الْفِعْلِ وَالْقَصْدِ، فَصَلَاةُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ أَكْمَلَ صَلَاةٍ، وَأَتَمَّهَا وَأَزْكَاهَا وَأَعَمَّهَا".

وللحديث بقية إن شاء الله.