الرجوع إلى الحق فضيلة (1)

  • 97

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فليس المطلـوب من العبد أن يكـون متصفًا بالعصمة من الوقوع في الخطأ، فهـو في النهاية بشـر، والخطـأ والنسيـان من طبـائعه، لكن المطلوب أن يكون قريب العودة إلى الحق، قال الله -تعالى-: (‌وَالَّذِينَ ‌إِذَا ‌فَعَلُوا ‌فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (آل عمران : 135).

قال الإمام ابن كثير -رحمه الله-: "أي: تابوا من ذنوبهم، ورجعوا إلى الله عن قريب، ولم يستمروا على المعصية ويصروا عليها غير مقلعين عنها، ولو تكرر منهم الذنب تابوا عنه" (تفسير ابن كثير).

وقال السعدي -رحمه الله-: "أي: إذا صدرت منهم أعمال سيئة كبيرة أو ما دون ذلك، بادروا إلى التوبة والاستغفار، وذكروا ربهم، وما توعد به العاصين ووعد به المتقين، فسألوه المغفرة لذنوبهم، والستر لعيوبهم، مع إقلاعهم عنها وندمهم عليها، (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ)" (تفسير السعدي).

وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (سَيِّدُ ‌الِاسْتِغْفَارِ ‌أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي، فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ) (رواه البخاري).

أقرر بذنبك ثم اطلب تجاوزه              عنك فإن جحود الذنب ذنبان!

والمطالع لسِيَر السَّلَف الصالح لن يجدهم متصفين بالعصمة، لكنهم إذا وقع الخطأ منهم، كانوا أحق الناس بقول الله -تعالى- فيهم: (‌إِنَّ ‌الَّذِينَ ‌اتَّقَوْا ‌إِذَا ‌مَسَّهُمْ ‌طَائِفٌ ‌مِنَ ‌الشَّيْطَانِ ‌تَذَكَّرُوا ‌فَإِذَا ‌هُمْ ‌مُبْصِرُونَ) (الأعراف: 201)، فكان الواحد منهم إذا أسـاء أحسن، وإذا أذنب استغفر، ولسان حاله ومقاله: "لأن أكون ذَنَبًا في الحق، خير من أن أكون رأسًا في الباطل".

إن الكبر داءٌ خطير، يورد صاحبه الموارد، ويمنعه من قبول الحق، وهو السبب الذي طُرد إبليس لأجله من رحمة الله، وهو أحد أسباب كفر وعناد مشركي أهل مكة؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ)، قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً. قَالَ: (إِنَّ اللهَ ‌جَمِيلٌ ‌يُحِبُّ ‌الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ) (رواه مسلم)، أي: التكبر عن قبول الحق والانقياد له، واحتقار الناس وازدراؤهم؛ فهذا هو الكبر.

قـال ابن رجب -رحمه الله-: "فالمتكبر ينظـر إلى نفسه بعيـن الكمـال، وإلى غيره بعين النقص، فيحتقرهم ويزدريهم، ولا يراهم أهلًا لأن يقوم بحقوقهم، ولا أن يقبل مِن أحدٍ منهم الحق إذا أورده عليه" (جامع العلوم والحكم)، قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "إن من أكبر الذنب أن يقول الرجل لأخيه: اتقِ الله، فيقول: عليك نفسك، أنت تأمرني؟!" (شعب الإيمان).

ولذلك كان من علامات التواضع: قبول الحق من أي أحد، فحقيقة التواضع: خضوع العبد لصولة الحق، وانقياده لها، فلا يقابلها بصولته عليها، سُئِل الفضيل بن عياض عن التواضع؟ فقال: "يخضع للحق، وينقاد له، ويقبله ممَّن قاله" (شعب الإيمان)، وقال ذو النون المصري: "ثلاثة من أعلام التواضع: تصغير النفس معرفة بالعيب، وتعظيم الناس حرمة للتوحيد، وقبول الحق والنصيحة من كل أحد" (شعب الإيمان).

فالمتواضع لا يبرح مراجعًا رأيه واجتهاده وعمله، فإن ظهر له الحق في خلافه؛ رجع عنه، وإن كان ما رجع إليه قولًا لمخالفه، أو رأيًا لمن هو دونه؛ فلا يليق بعاقل أن يرد الحق حتى وإن كان قائله مبطل، فالعبرة بالقول لا بالقائل.

قال ابن القيم -رحمه الله-: "فعلى المسلم أن يتبع هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- في قبول الحق ممَّن جاء به من ولي وعدو، وحبيب وبغيض، وبر وفاجر، ويرد الباطل على من قاله كائنًا مَن كان" (إعلام الموقعين).

وقال ابن حجر -رحمه الله-: "الحكمة قد يتلقاها الفاجر فلا ينتفع بها وتؤخذ عنه فينتفع بها، وإن الشخص قد يعلم الشيء ولا يعمل به، وإن الكافر قد يصدق ببعض ما يصدق به المؤمن ولا يكون بذلك مؤمنًا" (فتح الباري).