التراث والتجديد من منظور السلفية (1)

  • 117

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقد أصبح موضوع التراث والتجديد في العقود الأخيرة محور اهتمام الكثير من العلماء والباحثين، والمفكرين والمثقفين، وأساتذة الجامعات، والكُتَّاب، على اختلاف انتماءاتهم الثقافية والفكرية. 

وحظي الموضوع بدراساتٍ وأبحاثٍ كثيرة، ومؤتمرات عديدة، وندوات ومحاضرات، امتلأت بها مئات الكتب والدوريات، والمجلات والجرائد، وناقشته وسائل الإعلام المختلفة التي تناولت وتبنَّت معالجة قضية الموروث الثقافي للأمة من وجهات نظر متباينة.  

التراث في اللغة:

الإرث والميراث ما يخلفه الرجل لورثته، وهو أيضًا ما يكون لأناسٍ ثم ينتقل إلى آخرين بنسب أو سبب؛ فالوراثة والإرث انتقال ملكية كل ما يقتنى من غير عقد، أو ما يجري مجرى العقد، وسمي بذلك كل منتقل عن الميت إلى غيره، فيقال للمنتقل عن الميت لغيره: ميراث وإرث وتراث. 

وأصل الإرث والتراث لغة: وراث، فقلبت الواو ألفًا في إرث، وقلبت الواو تاء في تراث، قال تعالى: (‌وَتَأْكُلُونَ ‌التُّرَاثَ ‌أَكْلًا ‌لَمًّا) (الفجر: 19)، وقال تعالى: (‌وَإِنْ ‌كَانَ ‌رَجُلٌ ‌يُورَثُ ‌كَلَالَةً) (النساء: 12)

ويقال أيضًا لكلِّ مَن حصل له شيء من غير تعب: قد ورث كذا؛ قال تعالى: (‌وَأَوْرَثَكُمْ ‌أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا) (الأحزاب: 27)، وقال تعالى: (‌وَأَوْرَثْنَا ‌الْقَوْمَ ‌الَّذِينَ ‌كَانُوا ‌يُسْتَضْعَفُونَ ‌مَشَارِقَ ‌الْأَرْضِ ‌وَمَغَارِبَهَا ‌الَّتِي ‌بَارَكْنَا ‌فِيهَا) (الأعراف: 137).

والأصل في الميراث المال والأشياء المادية، لكنه ليس محصورًا بها؛ إذ يطلق أيضًا على الأشياء المعنوية: كالثقافة بما فيها الجوانب المعرفية والقِيَم الإنسانية، ومنه قوله تعالى: (‌وَوَرِثَ ‌سُلَيْمَانُ دَاوُودَ) (النمل: 16)، وقال تعالى: (‌وَيَرِثُ ‌مِنْ ‌آلِ ‌يَعْقُوبَ) (مريم:6)، فالمراد: وراثة النبوة والعلم والفضيلة دون المال، كما في قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: (‌لَا ‌نُورَثُ، ‌مَا ‌تَرَكْنَاهُ ‌صَدَقَةٌ) (متفق عليه)

وجاء في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم لأصحابه وهم في مكة يتقلبون بين المشاعر متعبدين معظمين: (قِفُوا ‌عَلَى ‌مَشَاعِرِكُمْ، فَإِنَّكُمْ عَلَى إِرْثٍ مِنْ إِرْثِ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)، أي: أصله وبقيته. ومنه قول أبي هريرة رضي الله عنه لأهل دمشق: "أنتم هنا -يعني في السوق- وميراث محمد يوزع في المسجد"، فلما ذهبوا لم يجدوا أموالًا توزع وإنما حِلَق العلم، وكان أبو هريرة يشير بكلامه هذا إلى قوله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا، وَلَا دِرْهَمًا ‌وَرَّثُوا ‌الْعِلْمَ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).

ويقال: ورثت علمًا من فلان، أي: استفدت منه. وقال تعالى: (‌ثُمَّ ‌أَوْرَثْنَا ‌الْكِتَابَ ‌الَّذِينَ ‌اصْطَفَيْنَا ‌مِنْ ‌عِبَادِنَا) (فاطر:32)، وقال تعالى: (‌وَإِنَّ ‌الَّذِينَ ‌أُورِثُوا ‌الْكِتَابَ ‌مِنْ ‌بَعْدِهِمْ ‌لَفِي ‌شَكٍّ ‌مِنْهُ ‌مُرِيبٍ) (الشورى: 14)، وقال تعالى: (‌فَخَلَفَ ‌مِنْ ‌بَعْدِهِمْ ‌خَلْفٌ ‌وَرِثُوا ‌الْكِتَابَ ‌يَأْخُذُونَ ‌عَرَضَ ‌هَذَا ‌الْأَدْنَى ‌وَيَقُولُونَ ‌سَيُغْفَرُ ‌لَنَا) (الأعراف:169)، فالوراثة على الحقيقية أن يحصل للإنسان شيء لا يكون عليه فيه تبعة، ولا عليه محاسبة. 

ووصف الله تعالى نفسه بأنه الوارث من حيث إن الأشياء كلها في النهاية راجعة عائدة إليه سبحانه وتعالى؛ قال عز وجل: (‌وَلِلَّهِ ‌مِيرَاثُ ‌السَّمَاوَاتِ ‌وَالْأَرْضِ) (آل عمران: 180)، وقال تعالى: (‌وَإِنَّا ‌لَنَحْنُ ‌نُحْيِي ‌وَنُمِيتُ ‌وَنَحْنُ ‌الْوَارِثُونَ) (الحجر: 23) (راجع: "مفردات ألفاظ القرآن" للراغب الأصفهاني، بتحقيق وتعليق الشيخ مصطفى العدوي - ط. مكتبة فياض - ط. 1430 هـ - 2009م، 671-672)، وراجع "السلفية وقضايا العصر" د. عبد الرحمن بن زيد الزنيدي - ط. مركز الدراسات والإعلام - دار إشبيلية - الرياض ط. 1418 هـ - 1998 م، ص317 - 320)

مصطلح التراث في العصر الحاضر:

قد أخذت كلمة (التراث) في عصرنا الحاضر بُعدًا أعمق من حيث استيعابها لكلِّ جوانب الثقافة، كما صار لها بُعدٌ وجدانيٌّ لم يهتم معه المفكرون المعاصرون بالاتفاق على تحديد واضح لمصطلح التراث؛ فمدار دراساتهم حول التراث أنه: كل ما خلَّفه السابقون من آثار ثقافية ومدنية في كلِّ أوجه الحياة.

فالمتداول عندهم: أن التراث العربي هو كل ما تركه العرب، وكل ما أنجز باللغة العربية قبل عصرنا دينيًّا كان أو غير ديني. والتراث الإسلامي يشمل كل الآثار الثقافية والمدنية التي أنجزها المسلمون في ظل الحضارة الإسلامية العريقة والتاريخ الإسلامي الطويل، فكله عندهم تراث، بغض النظر عن مدى التزامه بالإسلام من عدمه.   

والأوجه: أن وصفَ تراثٍ ما بأنه من التراث الإسلامي يعني كونه فعليًّا وحقيقة ينتمي لهذا التراث، ويعني موافقته وانسجامه مع تعاليم الإسلام غاية ومنهجًا؛ أي: أن التراث الإسلامي يجب أن ينحصر في أجزاء محددة ومعينة مِن بين ذلك التراث الكبير المنسوب للمسلمين عبر تاريخ الإسلام الطويل، ولا يكون ذلك إلا من خلال عملية نقد إسلامية واعية يقودها المجتهدون من علماء الإسلام المعتبرين؛ فهم أهل ذلك والأولى به.

أهمية التراث:

لتراث كل أمة أهمية كبيرة؛ فهو حضارتها وتاريخها، وهو جذور الأمة الذي تستقي منه الدروس والعبر، وينمي فيها الإحساس بالهوية، والشعور بالمسؤولية التاريخية، وهو تراكم خبرات فيه تنوع ثقافي، بما يحمله من قِيَم وآداب وفنون، وحرف وفلكلور، وعادات وتقاليد ورثتها أجيال وأقرتها، وارتضت منها ما صمد عبر قرون.

وفي هذه الموروثات ما يعد من ثوابت في الأمة الذي لا يقبل التغيير، ومنها ما هو ليس من الثوابت؛ فهو قابل للتغيير، وما كان من التراث من جهود الأمة العلمية والثقافية والاجتماعية، ومن منتجاتها العقلية والعملية فيؤخذ منه ويرد -عدا الإجماع والقياس الجلي فإنهما من الثوابت-. 

وما كان منها - من أمور الدنيا التي لا وحي فيها - تقبله حياتنا المعيشية المعاصرة فيحتفظ به لموافقته للعصر، وما كان منها لا تقبله حياتنا المعاصرة -لكونه كان ثقافة أو منتجًا علميًّا أو عمليًّا لصيقًا بالعصر الذي أنتج فيه وارتبط به، ولم يعد موافقًا للعصر الحديث- فيترك أو يطور ليوافق متطلبات العصر، وهذا يقتضي أن يكون باب الاجتهاد في الأمة مفتوحًا.

وفي الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ ‌اللَّهَ ‌يَبْعَثُ ‌لِهَذِهِ ‌الْأُمَّةِ ‌عَلَى ‌رَأْسِ ‌كُلِّ ‌مِائَةِ ‌سَنَةٍ ‌مَنْ ‌يُجَدِّدُ ‌لَهَا ‌دِينَهَا) (رواه أبو داود، وصححه الألباني)، وهذا الحديث تناوله العلماء وكتبوا فيه الرسائل في بيان معنى التجديد، والتعريف بمجددي الأمة؛ فذكر بعضهم قوائم بأسماء المجددين بدءًا من المائة الأولى وحتى القرن التاسع كما في قائمة السيوطي، أو حتى القرن الرابع عشر كما في قائمة صاحب (وسيلة المجددين)، ولم يتجاوز المراد من التجديد عند العلماء دائرة إحياء ما اندرس من العمل بالكتاب والسنة.  

وكلمة (مَنْ) في الحديث تنطبق على الواحد أو أكثر، وعلى ذلك يمكن تعدد المجددين في العصر الواحد، ويمكن بهذا المعنى أن يضطلع بالتجديد مجمع أو مجامع علمية معاصرة في حركة تجديد جماعي. 

والحديث أيضًا ينافي ما اشتهر بين الفقهاء في بعض العصور مِن القول بانقطاع الاجتهاد في الأمة من بعد القرن الخامس الهجري؛ بزعم منع الفوضى الدينية، وهو ما أدَّى إلى التقليد وإيجاب التمذهب، وانتهى الأمر بالجمود الفقهي والوقوع في التعصب المذهبي؛ إذ لا حجة تنهض للقول بذلك، وللسيوطي رحمه الله كتاب سمَّاه: (الرد على مَن أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كلِّ عصرٍ فرض)، وهو مطبوع متداول.

ومما ينبغي أن يُرَاعى في تناول حضارة الأمة وتراثها: التعرف على الوجه الحقيقي لهذه الحضارة، وهذا التراث من مصادره الحقيقية التي نبَّه عليها علماء الأمة ومصلحوها؛ لا من المصادر المشوهة والمغرضة؛ فهذا هو حائط الصد الذي يعول عليه في دفع تشويه تاريخ الأمة وحضارتها في مواجهة كل الحملات الشرسة المغرضة من أعداء الأمة -وما أكثرهم!- لتشويه تاريخ الأمة المجيد، والنيل من حضارتها العريقة!

التراث والوحي:  

المراد بالوحي: نصوص القرآن الكريم، والسنة المطهرة الثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، والوحي محفوظ بحفظ الله تعالى له، ثم محفوظ بجهود علماء الأمة وأئمتهم. 

ودخول الكتاب والسنة ضمن تراث الأمة يحتمل أمرين:

 1- اعتبار الوحي "كتابًا وسنة" من تراث الأمة؛ يعني أن تراث الأمة يتضمن: 

- الوحي المستمد من علم الله تعالى، متمثلًا في: القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة.

- الإنتاج الثقافي والمدني الذي أثمرته الجهود الفكرية والتطبيقية للأمة خلال العصور الإسلامية. 

2- أو اعتبار التراث يحمل صفة زمنية ومِن ثَمَّ ظرفية، خلافًا للوحي الذي نزل يتضمن الحقائق والأحكام المتعالية عن الزمان والمكان، وإن كانت تطبق مقتضياتها على أوضاعها من خلال فكر البشر وجهودهم.

ومِن هذين الاعتبارين، فهناك رأيان: 

الأول: أن التراث يشمل الكتاب والسنة كما يشمل سائر الإنتاج الفكري المتعامل معهما، فمدلول التراث في هذا التصور لا يقتصر على منجزات العقل الثقافية والحضارية والمادية، بل إنه يشتمل على الوحي الإلهي أيضًا.

ومستند هذا الرأي ما ورد في اللغة العربية وما ورد في النصوص الشرعية من أن الميراث والتراث يشتمل لغة الميراث المادي وغير المادي.

ويرى أصحاب التوجه الإسلامي والنظرة السلفية تقسيم هذا التراث إلى قسمين، ينظر لكل واحد منهما نظرة تختلف عن الآخر، ويتعامل معه تعاملًا مغايرًا للتعامل مع الآخر، فالإنجاز البشري والحضاري والثقافي قابل للنقد والانتقاء، وتوظيفه لخدمة الوضعية المعاصرة التي تقتضيها المصلحة - إن كان في دائرة العفو الشرعي، أما ما تناوله أو أشار إليه الشرع بدون ورود بينات من نص أو إجماع أو قياس جلي، فإن معيار النقد فيه هو موافقة الأدلة الشرعية وقواعد وأصول الاجتهاد الصحيح -، أما الوحي كتابًا وسنة كأدلة منشئة - ويلحقهما الإجماع والقياس الجلي كأدلة كاشفة - فإنه يتلقى ليتكيف الواقع به، وعلى النقيض فعند الحداثيين أن القرآن والسنة هو جزء من التراث غير مقدس! متأثرين بالتجربة الأوروبية الغربية في تعاملها مع النصوص الدينية لديهم والتي وقع فيها التحريف. 

الثاني: إخراج الوحي من دائرة التراث ابتداءً، بحيث ينحصر مصطلح التراث فيما أنتجه الأجداد -عدا الإجماع والقياس الجلي-، مما ينفي عن التراث قداسة التعالي عن النقد، وما عفا عنه الشرع كانت المصلحة المعاصرة مقدمة فيه، وما دخل في دائرة التكليف الشرعي كان معيار النقد فيه وفقا لضوابط وقواعد الاجتهاد الشرعي. أي: ضرورة الفصل بين الإسلام من حيث هو دين وعقيدة، وبين الإسلام من حيث هو تراث وحضارة، ومِن ثَمَّ فالإسلام ذاته بما هو تعاليم موحاة ليس تراثًا، وإنما تراث الإسلام هو التراث الديني المتمثل في عطاء العلماء في مختلف الفنون.    

يقول د. عبد الرحمن الزنيدي: (وعموما فالرأيان: عد الوحي من التراث، وإخراجه عنه، متفقان لدى ذوي التوجهات الإسلامية على تميز الوحي الإلهي عن الجهد البشري من حيث تنزه الأول عن الخطأ وعموميته للتاريخ البشري كله، خلافًا للثاني) (انظر: "السلفية وقضايا العصر" ص 323).

وأضاف: (السلفية لا ترى مشاحة في الاصطلاح ما دام مضمون المصطلح متسقًا مع المنهج الإسلامي من حيث موقع الوحي، ومع الجهد البشري في دائرة التراث. ومع ذلك أرى أن الأولى الأخذ بالرأي الثاني، حتى وإن صح لغة إطلاق التراث على الوحي؛ تجنبًا لما يحمله مصطلح التراث في هذا العصر من سمات النسبية والزمنية، خاصة وأن ثقافتنا الإسلامية لم تعد هي المتحكمة بالمجال التداولي للمصطلحات، بل هي للأسف كثيرًا ما تكون تابعة، وتفاعلها مع الثقافة الغربية التي لا يحمل التراث في لغاتها دلالة التقديس والتعالي على الظرفية والبشرية، يقضي بأن ينأى بالوحي عن إدراجه ضمن التراث. 

والوحي ليس المقصود به نصوصه فحسب، بل مقرراته القطعية سندًا ودلالة، حتى وإن تبدت في صياغات بشرية قرَّبها علماء الإسلام في زمن ما للمستوى الفكري والأسلوبي لأهل ذلك الزمن؛ فهذه المقررات لا تأخذ حكم التراث الذي هو صنعة بشرية) (المرجع السابق، ص 323)

ضرورة اتباع كتاب الله والأخذ بشرعه: 

من كمال ربوبية الله تعالى وتعهده لخلقه: أن أرسل فيهم الأنبياء والرسل، وأنزل عليهم الكتب السماوية وزودهم بالشرائع الإلهية، وأوجب على الناس العمل بمقتضاها؛ إذ فيها صلاح دينهم ودنياهم، قال تعالى: (‌قُلْنَا ‌اهْبِطُوا ‌مِنْهَا ‌جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ . وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة: 38-39)، وقال تعالى: (‌كَانَ ‌النَّاسُ ‌أُمَّةً ‌وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (البقرة: 213)، وقال تعالى: (‌وَلَقَدْ ‌بَعَثْنَا ‌فِي ‌كُلِّ ‌أُمَّةٍ ‌رَسُولًا ‌أَنِ ‌اعْبُدُوا ‌اللَّهَ ‌وَاجْتَنِبُوا ‌الطَّاغُوتَ) (النحل: 36)، وقال تعالى: (‌لِكُلٍّ ‌جَعَلْنَا ‌مِنْكُمْ ‌شِرْعَةً ‌وَمِنْهَاجًا) (المائدة :48)، إشارة إلى ما قيَّض الله لنا من الدين، وأمرنا به لنتحراه اختيارًا، قال تعالى: (‌ثُمَّ ‌جَعَلْنَاكَ ‌عَلَى ‌شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا) (الجاثية: 18)، قال ابن عباس: "الشرعة ما ورد به القرآن، والمنهاج ما وردت به السنة" (انظر في ذلك: "مفردات ألفاظ القرآن" للراغب الأصفهاني، ص 334-335)

وهذه سنة ربانية ترتَّب عليها أن مَن لم تبلغه دعوة الرسل فهو مِن (أهل الفترة)، ومَن بلغته دعوة الرسل؛ فإنه يحاسب على مدى إيمانه بالرسل ومدى العمل بما جاءوا به من الشرائع؛ إذ ليس له تركها أو مخالفتها. وقد خَتَم الله تعالى هؤلاء الأنبياء والرسل بالنبي صلى الله عليه وسلم فلا نبي بعده، وختم هذه الكتب والشرائع المنزلة من السماء بالقرآن الكريم وبشريعة الإسلام، فلا كتاب سماوي بعد القرآن الكريم، ولا شريعة بعد الشريعة الإسلامية، فالقرآن الكريم هو الكتاب المهيمن على ما قبله من الكتب، والشريعة الإسلامية هي الشريعة الناسخة لما سبقها من الشرائع؛ لذا تكفَّل الله تعالى بحفظ هذا القرآن الكريم للأمة جيلًا بعد جيل، قال تعالى: (‌إِنَّا ‌نَحْنُ ‌نَزَّلْنَا ‌الذِّكْرَ ‌وَإِنَّا ‌لَهُ ‌لَحَافِظُونَ) (الحجر: 9)

وقد أوجب الله تعالى العمل بشريعة الإسلام وعدم الخروج عنها حتى قيام الساعة؛ لذا فإن عيسى عليه السلام عندما ينزل في آخر الزمان يقتل المسيح الدجال، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويحكم بشريعة الإسلام ، فلا يسعه عليه السلام وهو في آخر الزمان الخروج عن الشريعة الإسلامية التي نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم، مع كون عيسى عليه السلام من أولي العزم من الرسل، ومع كونه أنزل عليه الإنجيل، ومع كونه قد وضع عن بني إسرائيل حين بعث فيهم بعض ما شدد به عليهم في شريعتهم؛ فكيف يكون لغيره من آحاد الناس ترك الأخذ بالقرآن الكريم أو الخروج عن شريعة الإسلام. 

الشرع يزكي تراث الصحابة الديني: 

وكل ما ثبت عن الصحابة من الاعتقاد وأصول الإيمان وفهمهم للدين والعمل جاء الشرع بتزكيته؛ خاصة وقد ثَبَت أنهم في هذه المسائل كانوا على قلب رجل واحد، وإجماعهم - في الاعتقاد أو العمل - لا شك في الاحتجاج به، قال تعالى في شأن الصحابة: (‌فَإِنْ ‌آمَنُوا ‌بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا) (البقرة: 137)، وقال صلى الله عليه وسلم فيهم: (فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي ‌وَسُنَّةِ ‌الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)

وفي الحديث الأمر بالتمسك بسنة الصحابة والأخذ بهديهم، وفيه جمع صلى الله عليه وسلم سنته وسنتهم في ضمير واحد؛ فلم يقل: "عضوا عليهما"، بل قال: (عَضُّوا عَلَيْهَا)؛ لأنه عَلِم أنهم لا يفارقون سنته، بل يتمسكون بها، وإنما انتشرت سنته صلى الله عليه وسلم في الأرض شرقًا وغربًا مِن بعده عن طريقهم وما كانوا عليه، وفي الحض على العض عليها بالنواجذ أمر بالحرص كل الحرص على اتباعها. 

وفيه: وصفهم بالراشدين وبالمهديين، قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله: (والسنة هي الطريق المسلوك، فيشمل ذلك التمسك بما كان عليه صلى الله عليه وسلم هو وخلفاؤه الراشدون من الاعتقادات والأعمال والأقوال، وهذه هي السُّنة الكاملة؛ ولهذا كان السلف قديمًا لا يطلقون اسم السنة إلا على ما يشمل ذلك كله) (راجع: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب الحنبلي - ط. مصطفى الحلبي الخامسة، 1400هـ - 1980م، ص 258 وما بعدها).

وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بوقوع الاختلاف في الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، ثم قال في صفة هذه الفرقة الناجية أنها: (مَا ‌أَنَا ‌عَلَيْهِ ‌وَأَصْحَابِي) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني)

فما اتفق عليه الصحابة رضي الله عنهم فهو حجة؛ لعصمة إجماعهم، وهو دليل قطعي عند أهل السنة والجماعة، فـ(أهل السنة لا يتصور أن يتفقوا على مخالفة إجماع الصحابة)، (فإنهم متفقون على أن إجماع الصحابة حجة)، فإذا كان الاتفاق على إجماع أهل الاجتهاد من المسلمين في عصرٍ مِن العصور على أمرٍ مِن أمور الدين يعد حجة شرعية عند الفقهاء، فلا شك أن إجماع الصحابة أولى ومقدم (للاستزادة راجع في ذلك: الكلام عن حجية الإجماع في (الإحكام في أصول الأحكام) للآمدي، و(أصول الفقه) لعبد الوهاب خلاف).

الحداثة ورفض التراث: 

(الاتجاه الحداثي بالمفهوم المذهبي للحداثة، الذي تشكل فيه الحداثة ثورة كاملة على كل ما كان وما هو كائن في المجتمع، وثورة على المفاهيم السائدة في مجتمع ما وعلى تقاليده وتراثه. وفي محاولة - تيار الحداثة - هدم كل ما هو أصيل وثابت فيه، يتحدد موقفه من الحياة المتجددة) ("السلفية وقضايا العصر"، ص 324)

وإن كانت هذه الروح المتمردة لم تعد عامة بالذات في السنوات الأخيرة بين أصحاب ذلك الاتجاه؛ إذ إن منهم مَن عاد ليهتم بقضية التراث، إما بمحاولة الموائمة بين التراث العربي والفكر الغربي الوافد لئلا تتفلت منا عروبتنا، وإما بالاعتراف بالتراث والتفاعل معه تفاعلًا يجعلهم يتحكمون في هذا التراث، ولا يتحكم هذا التراث فيهم. 

وعلى النقيض منهم فعند الإسلاميين عامة وعند السلفيين منهم خاصة، (فإن التراث يمثِّل لديهم الأساس والمنطلق للحركة النهضوية الصحيحة، وللنظر في الواقع المعاصر، حتى أصبح التراث لدى العصرانيين مرادفا للسلفية، والسلفيون هم التراثيون) (المصدر السابق، ص 325).  

والقائلون بالحداثة على اختلاف مشاربهم ينظرون إلى التراث وَفْق معطيات مسبقة تعتمد على أولوية العقل، وإقصاء وحجب النصوص الشرعية! من خلال تبنى التشكيك فيها وعدها قابلة للنقد والتحرير، والعمل على تفكيكها؛ تمهيدًا لتقليد النموذج الغربي والأخذ به. 

ومن أبرز معالم هذه الحداثة:

- الاعتماد الكامل على العقل، فهو المرجعية الأولى للمعرفة عندهم، وهو المصدر الوحيد لها، فالعقل عندهم قادر ابتداءً على إنشاء المعارف دون حاجة إلى وصاية خارجية. 

- التحرر الكامل من النصوص والضوابط والأخلاق، والقِيَم والمعايير، وأحكام الشريعة؛ فللعقل أن يقرأ ما يريد، وأن يقول ما يريد! 

- محاولة تقديم نموذج مأخوذ من النموذج الغربي على أنه هو النموذج الناجح لخروج الأمة العربية من تخلفها وتأخرها عن مصاف الأمم المتقدمة.

- زعم عجز الثقافة الإسلامية والموروث الإسلامي بكلِّ مكوناته من نصوص الكتاب والسنة عن تقديم حلول لمشكلات الواقع، أو أن تكون حلولًا صالحة للتطبيق؛ مما يستلزم عندهم تجاوزها!

وللحديث بقية إن شاء الله.