عاجل

فأقم وجهك للدين حنيفًا (5)

  • 57

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فعن أبي وَاقِدٍ اللَّيْثِي رضي الله عنه -وَكَانَ مِنْ أَصْحَاب رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم- قال: لَمَّا افْتَتَحَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ خَرَجْنَا مَعَهُ قِبَلَ هَوَازِنٍ -حُنَين- حَتَّى مَرَرْنَا عَلَى سِدْرَةٍ لِلْكُفَّارِ يَعْكفُونَ حَوْلَهَا وَيَدْعُونَهَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ -شَجَرَةٌ عَظِيمَةٌ خَضْرَاءُ، يَأْتُونَهَا كُلَّ سَنَةٍ، فَيُعَلِّقُونَ عَلَيْهَا أَسْلِحَتَهُمْ، وَيَذْبَحُونَ عِنْدَهَا، وَيَعْكُفُونَ عِنْدَهَا يَوْمًا- قُلْنَا: يَا رسول الله، اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنوَاطٍ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: (الله أكبَرُ، إِنَّهَا السُّنَنُ، هذَا كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى: "اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ")، ثُمَّ قَال رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّكُمْ سَتَرْكبُنَّ سُنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني).

فبيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: أن هذا مِن عمل المشركين، وأن مشابهتهم في هذا شرك بالله تبارك وتعالى؛ إذ هو طلب البركة والنصر من غير الله عز وجل، وقطع عمر رضي الله عنه شجرة الرضوان لما رأى الناس يقصدونها يتبركون بها، وأخفى رضي الله عنه قبر نبي الله دانيال عليه السلام في مدينة تستر، بعد ما جعله الناس وسيلة عند طلب المطر، وحينما جفَّ المطر في زمن عمر رضي الله عنه وأراد الاستسقاء لم يذهب إلى قبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل توسل إلى الله بدعاء الصالحين الأحياء، فتوسل بدعاء العباس رضي الله عنه؛ لأن الدعاء من الأعمال الصالحة التي شرعها الله وسيلة إليه، أما الأحجار والقبور فهي لا تنفع ولا تضر، ولم يشرعها الله سببًا ولا وسيلةً، بل قامت الأدلة بالنهي عن رفع القبر، وعدم الغلو فيه.

حتى كان النبي صلى الله عليه وسلم يخشى من الغلو في قبره، فكان يلهج بالدعاء ويقول: (اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي ‌وَثنَاً ‌يُعْبدُ ‌بَعْدِي، اشْتَدَّ غَضَبُ اللهِ على قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِم مَسَاجِدَ) (رواه أحمد، وصححه الألباني)؛ لذا لا يجوز التوسل بالقبور ولا بساكنيها والاستغاثة بهم؛ لأنهم لا يسمعون -إلا ما وردت به النصوص من التسليم عليهم مثلا-، ولو سمعوا ما قدروا على النفع والاستجابة، فصار خطابهم والاستغاثة بهم، وطلب المدد منهم، طلب ممَّن لا يملك، قال الله عز وجل: (‌ذَلِكُمُ ‌اللَّهُ ‌رَبُّكُمْ ‌لَهُ ‌الْمُلْكُ ‌وَالَّذِينَ ‌تَدْعُونَ ‌مِنْ ‌دُونِهِ ‌مَا ‌يَمْلِكُونَ ‌مِنْ ‌قِطْمِيرٍ . إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) (فاطر: 13-14).

وعن عابس بن ربيعة، قال: رأَيتُ عمر بن الخطاب رضي الله عنه يُقبِّلُ الحجرَ -يعني الأسود- ويقول: "إِنِّي لأَعْلَمُ أَنكَ حَجَرٌ لاَ تضر ولا تَنفع، وَلولاَ أَنِّي رأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُقبلكَ ما قبلتُك" (متفق عليه)، وفي هذا دليل على أنه لا يجوز تقبيل حجر إلا بنصٍّ من القرآن أو السنة، ولا يصح الاستحسان في هذا الباب؛ فعمر رضي الله عنه قَبَّل الحجر الأسود لوجود نص صريح له، وهذا دليل على خصوصية الحجر الأسود دون ما سواه.

لذا حينما ضَلَّت البشرية بعد آدم عليه السلام، وظهر فيها الشرك بطلب المدد من أولئك الصالحين الأموات، وحين جعلهم الناس وسائط بينهم وبين الله في الدعاء -ظنًّا منهم أن هذا قُرْبَة وزلفى إلى الله-؛ بَعَث الله إليهم نوحًا عليه السلام، قال الله تعالى: (‌كَانَ ‌النَّاسُ ‌أُمَّةً ‌وَاحِدَةً ‌فَبَعَثَ ‌اللَّهُ ‌النَّبِيِّينَ ‌مُبَشِّرِينَ ‌وَمُنْذِرِينَ ‌وَأَنْزَلَ ‌مَعَهُمُ ‌الْكِتَابَ ‌بِالْحَقِّ) (البقرة: 213)

وهذا دليل على أن حياة البشرية لا تستقيم، ولا تنتظم إلا ببعثة الرسل عليهم الصلاة والسلام؛ فالرسالة ضرورية للعباد، لا بد لهم منها، وحاجتهم إليها فوق حاجتهم إلى كل شيء؛ فهي روح العالم ونوره وحياته؛ ولذلك سمَّى الله تعالى وحيه إلى نبيه صلى الله عليه وسلم روحًا، وسمَّاه نورًا، والإنسان لا يستغني عن الروح؛ فهي سبب الحياة، ولا عن النور؛ فهو سبب الهداية، قال سبحانه وتعالى: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا) (الشورى:52)، وقال تعالى: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) (يونس: 47)

وهؤلاء الرُّسُل هم الذين يُعَرِّفُون الناس بربهم معرفة صحيحة صادقة، ويضبطون حركتهم الفكرية والعملية بضوابط الوحي الإلهي؛ إذ لا تستطيع العقول البشرية أن تستقل بإدراك حقائق الأشياء على ما هي عليه، ولا تستقل بمعرفة ما تنبغي معرفته من مصالحهم العاجلة والآجلة، ولا تستطيع معرفة أمور الغيب المحجوبة عنها، ولا الأمور الدينية على وجه التفصيل.