شريعة الإسلام كاملة وكفيلة بالسياسة العادلة (٢)

  • 65

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقد ذكرنا في المقال السابق قول الله تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ ‌تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) (النحل: ٨٩)، وكذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ ‌لَنْ ‌تَضِلُّوا ‌مَا ‌تَمَسَّكْتُمْ ‌بِهِمَا: كِتَابَ اللَّهِ، وَسُنَّةَ رَسُولِهِ) (أخرجه مالك في الموطأ، وحسنه الألباني)، وبينَّا أن ذلك يقتضي أن تكون شريعة الإسلام وافية بجميع الأحكام التي تحتاج إليها الأمم في تدبير شئونها وتنظيم حياتها، وأن تكون كذلك هذه الأحكام مهيمنة ومصلحة للحياة في تطورها، ومراحل تقدمها ورقيها.

ولكن لا بد من التنبيه أنه ليس معنى ذلك، أن القرآن أتى بتفاصيل أحكام كل الوقائع والأحداث من وقت نزول التشريع حتى آخر الزمان، وإنما جاء القرآن بأحكام مفصلة في بعض المسائل التي تحتاج تفصيلًا، ولزومها للعالمين إلى يوم القيامة مقتضى حكمة وعزة الخبير العليم، وجاء معها أيضًا بقوانين عامة، ومبادئ كلية يمكن تحكيمها في كلِّ ما يعرض للناس في حياتهم اليومية؛ فهي مبادئ وقوانين محكمة ثابتة، كما أنها عامة كلية؛ وبذلك تكون صالحة لكل الأزمان والأحوال، والأمكنة والمجتمعات.

أما التفصيلات التي تختلف فيها الأمم باختلاف أحوالها وأزمانها؛ فقد سكت عنها، ومع ذلك لم يغفل تفصيل ما يراه منها في حاجة إلى تفصيل، وهذا ليس قصورًا في الشريعة، بل هو قمة العدل وغاية الحكمة؛ حتى تكون كل أمة في سعة من أن تراعي فيها مصالحها الخاصة، وما تقتضيه حالها في ضوء المبادئ العامة للشريعة.

لذلك قال الإمام الجويني: "للشرع مبنى بديع، وأسٌّ هو منشأ كل تفصيل وتفريع، وهو معتمد المفتي في الهداية الكلية والدراية، وهو المشير إلى استرسال أحكام الله على الوقائع مع نفي النهاية" (غياث الأمم في التياث الظلم).

وللشيخ عبد الرحمن تاج -شيخ الأزهر الأسبق- كلام رائع في هذا السياق حيث يقول: "فالقرآن الذي هو المصدر الأول للتشريع الإسلامي هو تبيان لكل شيء؛ من حيث إنه أحاط بجميع الأصول والقواعد التي لا بد منها في كل قانون ونظام، وذلك كوجوب العدل، والشورى، ورفع الحرج، ودفع الضرر، ورعاية الحقوق لأصحابها، وأداء الأمانات إلى أهلها، والرجوع بمهام الأمور إلى أهل الذكر والاختصاص، وما إلى ذلك من المبادئ العامة التي لا يستطيع أن يشذ عنها قانون يراد به صلاح الأمم وإسعادها، وهو تبيان لكل شيء من حيث إنه قد أحاط أيضًا بأصول ما يلزم لحفظ المقاصد التي لم تأت الشرائع السماوية ولم تنشأ القوانين إلا لخدمتها والمحافظة عليها؛ فإن عليها يقوم أمر الدين والدنيا، وبالمحافظة عليها ينتظم شأن الأفراد والمجتمعات؛ هي المقاصد الخمسة: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال".

ثم قال -رحمه الله-: "ثم جاءت السنة توفي لذلك حقه من الشرح والبيان، والتكميل والتعليل، والتنظير وضرب الأمثال، وكان -صلى الله عليه وسلم- يقيس ويجتهد؛ يجمع في الحكم بين المتماثلات، ويفرِّق بين المختلفات، ويربط الأشياء بنظائرها، ويلحق الفروع بأصولها، منبِّهًا -كما هو نمط القرآن- إلى علل الأحكام وأسرار التشريع" (السياسة الشرعية والفقه الإسلامي بتصرفٍ).

وللحديث بقية إن شاء الله.