عاجل

الحداثة وما بعد الحداثة

  • 276

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فالحداثة هي المشروع الحضاري الأوروبي الذي تبلور في بدايات النهضة الأوروبية بعد الانتقال الحاسم من المجتمع الزراعي الإقطاعي إلى المجتمع الرأسمالي الصناعي، وقامت الحداثة على عدة أسس، هي: الفردية والعقلانية، والاعتماد على العلم والتكنولوجيا، وتَبني النظرية الخطية في التقدُّم الإنساني؛ بمعنى أن التاريخ يتقدم (تقدمًا مطردًا) من مرحلة إلى مرحلة أخرى (راجع: إعادة اختراع السياسة من الحداثة إلى العولمة، السيد يسين - الهيئة المصرية العامة للكتاب - مكتبة الأسرة 2006، ص 214 بتصرفٍ).

فمذهب الحداثة في أوروبا رافق صعود المجتمع الصناعي باعتباره نموذجًا حضاريًّا جديدًا بني على أنقاض المجتمع الإقطاعي، ويقوم على:

- مبدأ (الفردية): ويعنى حق الفرد في أن ينطلق في المجتمع بغير قيود ولا حدود؛ إلا ما ينص عليه الدستور والقانون.

- ومبدأ (العقلانية): ويعني انقضاء عهد التفكير الخرافي والعشوائي، وتحكيم العقل في كل شيء باعتبار العقل هو محك الحكم على الأشياء.

- ومبدأ (الاعتماد على العلم والتكنولوجيا)؛ لحلِّ المشكلات الإنسانية.

- مع مبدأ رابع، وهو: (الاعتماد على المنهج الوضعي في البحث)؛ أي: ألا يتعرض الباحث إلا لبحث الظواهر التي يمكن قياسها.

وأخيرًا تبني مفهومًا خطيًّا للتقدم؛ بمعنى أن التاريخ الإنساني يتقدَّم من مرحلة إلى مرحلة أخرى (راجع المصدر السابق، ص 24 - 25).

وفكرة التقدم في تعريفها العام الميسر، لا تخرج عن الاعتقاد الذي مبناه: أن التاريخ بشكل عام يتقدَّم تقدمًا مطردًا من مرحلة لأخرى في اتجاه تحسن الوضع الإنساني المادي، في شكل تحقيق حياة أكثر صحة، وسعادة وأمنا وراحة، وذلك بالنسبة لأعدادٍ متزايدةٍ من البشر، وبعبارة أيسر: فإن التقدم يعني -على المدى الطويل- أن أحوال الإنسان سوف تتحسن، وترتقي إلى الأفضل.

وفي ضوء هذه القِيَم جميعًا تم تحديث النظام السياسي -في أوروبا- من خلال القضاء على مواريث العصر الإقطاعي، حيث كان يتم التحكم في البشر باسم الحقوق الأبدية للإقطاعي على رعاياه، وحيث كانت الكنيسة تمارس الإرهاب المعنوي على الناس؛ بزعم أنها تستمد سلطتها مباشرة من الله -سبحانه وتعالى-، ومِن ثَمَّ أعطت لنفسها الحق في منح صكوك الغفران، كما كانت الكنيسة بتفسيراتها الجامدة وبتحريفاتها للنصوص تصادر حرية التفكير، وتضع قيودًا لا حدود لها على حرية التعبير.

وحيث إن الحَديث لغة: نقيض القديم، (فالحداثة نقيض القدم، وكلاهما يشير إلى أن ما يقع في دائرة الحداثة يتعارض مع ما يقع في دائرة القدم، وأن وجود أحدهما نفي لوجود الآخر، كما أن فهم أحدهما لا يتم إلا بفهم تعارضه مع الآخر، على أن هذا التعارض ليس تعارضًا بين عنصرين بسيطين، وإنما هو تعارض بين نظامين، يقوم كل منهما على مستويات متعددة تتجاوب عناصرها وتتوازى في علاقات تصنع الصورة الكلية للنظام، بحيث لا يمكن فهم مستوى من المستويات دون إدراك علاقاته بغيره) (راجع: قراءة التراث النقدي، د. جابر عصفور - الهيئة المصرية العامة للكتاب - مكتبة الأسرة 2006، ص 119 بتصرفٍ).  

ابتدأت الثورة الصناعية في أوروبا في إنجلترا منذ القرن الثامن عشر، فكانت الآلة البخارية التي ابتكرها (جيمس وات) عام 1770م بداية هذه الثورة التي أوجدت القطارات، ثم ظهر محرك الديزل الذي يقوم على الزيوت الثقيلة، والمحرك الانفجاري الذي أوجد السيارات.

وفي عام 1870م بدأ استغلال مساقط المياه لتوليد الطاقة الكهربائية، ولم يقف التطور عند حدِّ حتى أن الحروب والأزمات كانت محرِّضًا لدفع عجلة الحضارة بسرعة وخطى أكبر، وجاء اختراع الهاتف والسينما والراديو، وما أن جاءت الحرب العالمية الثانية حتى وَجَد الناس أنفسهم أمام اكتشافات جديدة مذهلة؛ خاصة بعد استخدام الطاقة الذرية، إلى أن امتدت الاختراعات إلى الحاسبات الإلكترونية والصواريخ، والمحرك الذاتي (الروبوت).

وتمثَّلت (الحداثة السياسية) في أوروبا في إقامة نُظُم عصرية تقوم على أساس النظم الملكية أو الجمهورية، يحكمها دستور ينص صراحة على حقوق المواطنين وواجباتهم، ويحدد العلاقات بين السلطات الثلاث: التنفيذية، والتشريعية، والقضائية.

أما في مجال (الحداثة الاقتصادية): فقد استطاعت أوروبا أن تشعل ثورة كاملة في مجال الإنتاج والاستهلاك معًا؛ ذلك أنها اعتمدت على العِلْم والتكنولوجيا، واستطاعت أن تصنع آلات المصانع القادرة على الإنتاج الوفير؛ مما سمح لها على المدى الطويل بسدِّ الحاجات الأساسية لملايين البشر، ومن بعد سد الحاجات الكمالية بعد ما برز المجتمع الاستهلاكي بتجلياته المعروفة، وخصوصًا عقب الحرب العالمية الثانية.

أما في مجال (الحداثة الاجتماعية): فكان تقسيم العمل (هو الملمح الأساسي للمجتمع الحديث، كل فرد في المجتمع له عمل محدد، يؤهل لأدائه وَفْق برامج تعليمية وتدريبية خاصة).

أما في مجال (الحداثة الثقافية) فإن (العقل هو محك الحكم على الأشياء؛ فقد تم تحييد التدخلات الدينية في السياسة من خلال مبدأ العلمانية الذي يفصل بين الدين والدولة، وفي مجال الحداثة الثقافية كانت حرية التفكير، وشهدت حرية التعبير تجليات في كلِّ الميادين في الفلسفة والفن والأدب والعلم) (راجع في ذلك المصدر السابق، ص 25 - 26).

وفي المقابل: أثَّرت الثورة الصناعية في عصر النهضة في أوروبا على الحياة الفكرية والأدبية تأثيرًا قويًّا، بعد أن خضع الإنسان الأوروبي معها بكل رضى لسيطرة الآلة، وأصبح مفهوم الحداثة هناك يقوم على مدى الارتباط بمظاهر العصر، واستحوذت التقنيات الحديثة والطابع العقلاني الرياضي والواقعية المادية على الإنسان حتى أصبح خصمًا للقِيَم التقليدية في الطبيعة والمجتمع (راجع: من الحداثة إلى ما بعد الحداثة في الفن، عفيفي بهنسي - ط. دار الكتاب العربي - ط. أولى 1997م - 1418 هـ، ص 10 بتصرفٍ).

ولقد ابتدأت الحداثة في أوروبا منذ اللحظة التي تفككت فيها الثقافة الدينية، وظهرت الثقافة اللا دينية القائمة على العقل، مناهضة إلى حدِّ القطيعة لجميع المبادئ التي قام عليها الدِّين.

وقد ارتبطت النزعة الفردية للحداثة في أوروبا بالحرية؛ لذا طغت الذاتية في اتجاهات الأدب والفن الحديث، وتطرفت الذاتية بنزعتها الانفصالية في أوروبا حتى أصبحت وحيدة الاتجاه تناهض الطبيعة والتراث والدِّين (راجع المصدر السابق، ص 84).  

ولكن (فكرة التقدم الغربية التي وصلت ذروتها في القرن الثامن عشر، والقرن التاسع عشر، تحطمت على صخور الوقائع التاريخية البشعة في القرن العشرين، والتي تمثَّلت في الحرب العالمية الأولى بكلِّ بربريتها التي خاضتها الدول الأوروبية المتقدمة المتنافسة على النفوذ العالمي ضد بعضها، وبعدها الحرب العالمية الثانية بكلِّ أهوالها، ولا ننسى مقدماتها في ظهور النازية والفاشية، والتي هي تيارات أيديولوجية متعصبة تسير ضد منطق التقدم! (راجع: إعادة اختراع السياسة، ص 20 - 21).

لقد كان للاكتشافات العلمية الخارقة تأثير مفاجئ على الإنسان في العصر الحديث، وأحدثت هزات في البنيات الاجتماعية في أوروبا، فحمل القرن العشرون في أوروبا إلى جانب التفوق الحضاري بذور أزمة عميقة شربها الأوروبيين، وتجاوزت إدراكهم؛ لكي تستقر في أعماقهم، وتنعكس على مذاهبهم الفكرية والأدبية والاجتماعية.

وقد كان الفن مظهرًا من مظاهر هذه الأزمة، فتعددت المدارس الأدبية والفنية المتضاربة، كل منها يناقض ما سبقه ويخالفه، وإن اتفق معه في أساسيات الحداثة، فمنذ نهاية القرن التاسع عشر بدأ ظهور إنتاجات فنية خارجة عن حدود المجتمع، وعن التقديرات الرسمية، والذوق العام.

وكان الطابع المسيطر على هذا الفن الحديث هو التحرر والتمرد على جميع المظاهر الفنية، وعلى جميع القِيَم الجمالية التي كانت مسيطرة حتى ذلك الوقت)، (وتجسد هذا التمرد في نوع من الفردية تتضمن كثيرًا من الغرور)، وجر معه (الفن إلى العبث والفراغ) (راجع: من الحداثة إلى ما بعد الحداثة في الفن،  ص 11و13 بتصرفٍ).

فمن أمثلة ذلك: ظهور أول لوحة تجريدية في عام 1910م كانت مزيجًا من الجد والعبث، (وهكذا لم يعد العالم الخارجي كافيًا للردِّ على حاجات الفنان، بل لم يعد الخيال والفكر وحتى الجنون عناصر غريبة عن الفن) (راجع المصدر السابق، ص 11)، (لقد تَفَرَّغ الإنتاج الفني من كلِّ مضمون، وتفرغ من جميع القِيَم الجمالية، ولم يعد الإنسان أساسًا ومقياسًا، ولم تعد الطبيعة مصدر الجمال الفني، وكذلك لم تعد القِيَم الجمالية حكمًا؛ بقي فقط هذا الفن المجرد من كلِّ ثقافة) (راجع المصدر السابق، ص 12).

وقد لجأ بعض الفنانين إلى الخيال، فكان الخيال مريضًا كما في حركة الدادائية (التي ظهرت في باريس منذ عام 1912م، وهي حركة تمردية على جميع القيم والمواصفات، في عصرٍ سيطرت عليه الصناعة الاستهلاكية والحرب المدمِّرة، وكانت أعمال الفنانين هي لوحات تثير فضائح أكثر مِن أن تقدِّم تفاؤلات!)، فالدادائية (اتجاه عدمي عبثي يعبِّر عن تناقض الحياة المعاشة) (راجع: من الحداثة إلى ما بعد الحداثة في الفن، ص 27)، وكما في السريالية (وهي اتجاه ظهر عام 1925م في باريس كبديل للدادائية، وهي تهتم بتمثيل العالم الباطني وعالم اللاشعور بأشكال واقعية محرفة جدًّا)، (أو بأشكال تجريدية)، و(قد قدَّمت السينما الطلائعية الفرنسية أفلامًا سريالية) (راجع المصدر السابق، ص 38 بتصرفٍ).

ولجأ آخرون إلى تمثيل الآلات الحديثة في أعمالهم في مشاهد تحوَّلت من مناظر طبيعية إلى مشاهد صناعية، حيث عدَّ البعض الاتجاه إلى عالم الآلة في الفن علامة تقدُّم عصرية، فكان الاهتمام بتصوير الآلات والقطارات والمراكب.

نهاية نموذج الحداثة:

هذا المجتمع الأوروبي الصناعي بمشروعه الحداثي الذي أثَّر على كلِّ أقطار العالم بلا استثناء (دار دورة تاريخية كاملة ووصل إلى منتهاه، وأعقبه نموذج حضاري جديد، هو: مجتمع المعلومات الذي يتحول ببطء -وإن كان بثباتٍ- إلى مجتمع المعرفة، مرافقًا في ذلك بزوغ اقتصاد المعرفة حيث ستصبح المعرفة هي المولد الأساسي للثروة.

ويمكن القول: إن ظاهرة الكونية التي ترمز لصعود مجتمع المعلومات العالمي كنموذج جديد هي العولمة بتجلياتها: السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية) (راجع: إعادة اختراع السياسة، ص 5)، وهو ما يطلق عليه: (ما بعد الحداثة).

(لقد انتهت مرحلة نموذج المجتمع الصناعي، والذي انبثق عن الثورة الصناعية الأوروبية، وفتح الباب واسعًا وعريضًا أمام نشوء مجتمع المعلومات الكوني، والذي هو التعبير البليغ عن الثورة الاتصالية الكبرى ومجالاتها الرئيسية، وأبرزها: البث التليفزيوني من خلال الأقمار الصناعية، وشبكة الإنترنت بكلِّ آثارها العميقة: السياسية، والاقتصادية، والثقافية، وهكذا برزت مفاهيم لم تكن موجودة من قبل، مثل: الديمقراطية الرقمية، والتجارة الإلكترونية، والاتصالات عبر الحضارية.

وهكذا يمكن القول: إن السعي لإعادة صياغة مفهوم جديد للتقدم يكاد أن يكون المعادل الموضوعي -لو استخدمنا لغة النقد الأدبي- لسعي الإنسان في هذه المرحلة التاريخية في حياة الإنسانية لصياغة مفهوم جديد لمعنى الحياة) (راجع: إعادة اختراع السياسة، ص 20).  

ظهور عصر العولمة:

وتقوم ما بعد الحداثة في أوروبا (على أساس نفي الحقائق المطلقة، ونقد التاريخ؛ باعتباره في كثيرٍ من الأحوال ليس سوى دعاية لتيار معين، وأهم من ذلك: تأكيدها على سقوط الأيديولوجيات الكبرى التي كانت تزعم كلٌّ منها أنها تمتلك الحقيقة المطلقة، وبداية عصر الأنساق الفكرية المفتوحة) (المصدر السابق، ص 214 بتصرفٍ).

ولهذه العولمة الغربية أربعة وجوه:

- وجه سياسي: ويتركَّز في شعارات ثلاث، هي: الديمقراطية، واحترام التعددية، وحقوق الإنسان.

- وجه اقتصادي: ويرمز له تأسيس منظمة التجارة الدولية، وسرعة تدفق السلع والخدمات، والأفكار والبشر، بغير حدودٍ وقيودٍ.

- وجه ثقافي: ويتمثَّل في بزوغ ثقافة كونية تنسق العلاقات بين ثقافات الشعوب، والتي صارت تعيش في شبه حضارة واحدة.

- وجه اتصالي: والذي يكاد اليوم أن يكون أبرز وجوه العولمة؛ ذلك أن الثورة الاتصالية الكبرى قد مَحَت حواجز الزمان والمكان أمام البشر، وانفتحت أبواب الاتصال الإنساني غير المحدود بين الناس والدول والثقافات، وهذا الوجه من وجوه العولمة لم يتم حتى الآن دراسة آثاره العميقة بالقدر الكافي) (راجع المصدر السابق، ص 207 - 209).

ومعها شهد المجتمع الدولي ثلاث ثورات متزامنة:

- ثورة سياسية: صعدت فيها الديمقراطية في سُلَّم أولويات العالم من زاوية ضروريتها، وأهمية استحداث صور جديدة لها، وبروز نخب سياسية لها أجندة غير مسبوقة، مِن أهمها: الاهتمام بالبيئة، والتركيز على أهمية مؤسسات المجتمع المدني في التنمية.

- ثورة قيمية: تعبِّر عن الانتقال من القيم المادية إلى القيم غير المادية، أو بعبارة أخرى: الانتقال من الاهتمام برفع مستوى نوعية الحياة إلى التساؤل عما هو معنى الحياة.

- ثورة معرفية: ونعني بها بكل بساطة: الانتقال من الحداثة إلى ما بعد الحداثة، والتأثير البالغ لهذا الانتقال على مقولات إمكانية تعميم النموذج الأيديولوجي، وبروز أهمية صياغة الرؤى الإستراتيجية التي تعتمد لا على الأنساق الفكرية المغلقة: كالماركسية الجامدة، أو الرأسمالية المتطرفة، ولكن على الأنساق الفكرية المفتوحة (المصدر السابق، ص 213 - 214 بتصرفٍ).

الحداثة في البلاد العربية:

ذهبت طائفة -كما هو معتاد- مِن المفكرين والمثقفين والأدباء العرب، مِن أتباع كل ناعق غربي إلى تبني مذهب الحداثة الأوروبي في الفكر والأدب، والعمل على الترويج له في بلادنا.

والحداثة العربية هي حداثة غربية في كلِّ جوانبها وأصولها وفروعها؛ إلا أنها تسللت إلى العالم العربي دون غرابة؛ وذلك لأنها اتخذت صورة العصرية والاتجاه التجديدي في الأدب، وارتباط مفهوم الحداثة في أذهان بعض المثقفين بحركة ما يسمَّى: بالشعر الحر، أو شعر التفعيلة.

وتسربت مفاهيم الحداثة الغربية إلى بلادنا منذ الثلاثينيات من القرن العشرين، وتمثَّلت في محاولة الخروج على علم العروض في الشعر العربي، وأعقبها في الأربعينيات ظهور بعض مظاهر التمرد والرفض، وتجريب بعض الاتجاهات الأدبية الغربية: كالرمزية، والسريالية، ثم امتدت هذه الحداثة إلى مختلف نواحي الفكر الإنساني في صورة ثورة على الطبيعة والكون ونظامه، وتصوير الإنسان في هذه الحياة في صراعٍ وتحدٍّ مع الكون، كما هو حال فكر وكتابات أهل الحداثة في أوروبا، ومحاولة إظهار الإنسان بمظهر الذي يقهر الطبيعة، وامتد ذلك إلى القدح في التراث الإسلامي، والمطالبة بعزل الدين عن الحياة!

وخلاصة القول: إن الحداثيين العرب فقدوا انتماءهم لماضيهم، وأصبحوا بلا هوية ولا شخصية.

ويعد علي أحمد سعيد المعروف باسم: (أدونيس) -وهو سوري نصيري- المروِّج الأول لمذهب الحداثة في العالم العربي؛ حيث هاجم التاريخ الإسلامي، والدين والأخلاق في رسالته بعنوان: (الثابت والمنحول) لنيل درجة الدكتوراة من جامعة (القديس يوسف) في لبنان.

ومن رموز الحداثة في العالم العربي أيضًا: يوسف الخال، وهو شاعر نصراني -سوري الأصل- مات منتحرًا أثناء الحرب الأهلية في لبنان، ود. عبد العزيز المقالح، وهو شاعر وكاتب يمني، وكذلك المغربي محمد عابد الجابري، والشاعر الماركسي العراقي عبد الوهاب البياتي، ومحمد أركون الجزائري.

ومن رموزهم أيضًا: سلامة موسى، ولويس عوض، وعبد الوهاب البياتي، وغالي شكري، وحسن حنفي.

وقد أكَّد كُتَّاب وشعراء الحداثة العرب كثيرًا على الارتباط الوثيق بين حداثتهم وبين الحداثة الغربية؛ ونظرا لأن الحداثة عندهم مذهب فكري يتمرَّد على الواقع؛ فقد بحثوا في التاريخ العربي، وكُتُب التراث عن الفِرَق المنحرفة، والحركات الشاذة، والشعراء الزنادقة والمنحرفين، والثناء عليهم، وعدهم صورًا قديمة من الحداثة في التاريخ والتراث العربي، كما في أشعار بشار بن برد، وشعر الانحلال عند أبي نواس، وعمر بن أبي ربيعة، وفكر الحلاج، وابن عربي، والبسطامي، مِن غُلَاة الصوفية! (واللافت للنظر: أن غالبية رموز الحداثة العربية هم من أصحاب الفكر الشيوعي، ومن أصحاب التَّوجُّه اليساري، وهو الفكر الدَّافِع لهم على نشر الحداثة، وكثير منهم نصارى، وبعضهم من النصيرية، وقد وافق ظهور هذا التيار من الحداثة مرحلة رواج التيار الاشتراكي بعد ثورة 23 يوليو 1952م، فكان رديفًا له.