• الرئيسية
  • المقالات
  • الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (105) دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه وقومه إلى التوحيد وبراءته من الشرك (9)

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (105) دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه وقومه إلى التوحيد وبراءته من الشرك (9)

  • 89

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقال الله تعالى: (‌وَإِذْ ‌قَالَ ‌إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ . فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّين َ. فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ . وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ . وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام: 74-83).

قوله -تعالى-: (‌وَإِذْ ‌قَالَ ‌إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ).

الفائدة الثالثة:

ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله في شرحه "مدارج السالكين على منازل السالكين" للشيخ الهروي: أن اليقين على ثلاث درجات: علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين، وذَكَر في علم اليقين أنه ثلاث مراتب، (قلتُ: وهي في الحقيقة ثلاثة أمور؛ لأنها كلها متلازمة وواجبة).

قال -رحمه الله-: "الأولى: قبول ما ظَهَر من الحق -تعالى-، وهي أوامره ونواهيه وشرعه، ودينه الله الذي ظَهَر لنا منه على ألسنة رسوله؛ فنتلقاه بالقبول والانقياد، والإذعان والتسليم للربوبية والدخول تحت رق العبودية.

الثاني: قبول ما غاب للحق وهو الإيمان بالغيب، الذي أخبر به الحق -سبحانه- على ألسنة رسله من أمور الميعاد وتفصيله، والجنة والنار، وما قبل ذلك من الصراط والميزان والحساب، وما قبل ذلك من تشقق السماء وانفطارها، وانتثار الكواكب، ونسف الجبال وما قبل ذلك من أمور البرزخ ونعيمه وعذابه.

فقبول هذا كله -إيمانًا وتصديقًا وإيقانًا- هو اليقين بحيث لا يُخَالِجُ القلبَ فيه شبهةٌ، ولا شك، ولا تناسٍ، ولا غفلة عنه؛ فإنه إن لم يهلك يقينه؛ أفسده وأضعفه، (قلتُ: ويدخل في ذلك: الإيمان بالغيب الذي مضى مِن خلق السماوات والأرض في ستة أيام، والاستواء على العرش، وخلق آدم وإسكانه الجنة وزوجه، وما وقع من إبليس، وما وقع من إهباطه إلى الأرض، وكذلك ما وقع للرسل الكرام -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-؛ فإن ذلك يجب الإيقان به، كالإيقان بالأمور الغيبية المستقبلية).

الثالث: الوقوف على ما قام بالحق سبحانه من أسمائه وصفاته وأفعاله، وهو علم التوحيد الذي أساسه: إثبات الأسماء والصفات، وضده: التعطيل والنفي، والتجهم؛ هذا التوحيد يقابله التعطيل.

وأما التوحيد القصدي الإرادي، الذي هو إخلاص العمل لله وعبادته وحده، فيقابله الشرك، والتعطيل شر من الشرك، فإن المعطل جاحد للذات أو لكمالها، وهو جحد لحقيقة الإلهية، فإن ذاتًا لا تسمع ولا تبصر، ولا تتكلم، ولا ترضى، ولا تغضب، ولا تفعل شيئًا، وليست داخل العالم ولا خارجه، ولا متصلة بالعالم ولا منفصلة، ولا مجانبة له، ولا مباينة، ولا مجاورة ولا مجاوزة، ولا فوق العرش، ولا تحت العرش، ولا خلفه ولا أمامه، ولا عن يمينه ولا عن يساره؛ سواء هي والعدم! والمشرك مقر بالله وصفاته. لكن عبد معه غيره؛ فهو خير من المعطل للذات والصفات (قلتُ: أي: هو أقل شرًّا منه).

قال: فاليقين هو الوقوف على ما قام بالحق من أسمائه وصفاته، ونعوت كماله، وتوحيده، وهذه الثلاثة أشرف علوم الخلائق: علم الأمر والنهي، وعلم الأسماء والصفات والتوحيد، وعلم المعاد واليوم الآخر، والله أعلم.

(قلتُ: والظاهر أنه إنما رتبها على الدرجات الثلاث كعادته، من باب: أن علم التوحيد ومعرفة الله -عز وجل- بأسمائه وصفاته، والتعبد له بها، هو أعلى هذه العلوم على الإطلاق).

قال: الدرجة الثانية: عين اليقين، والفرق بين علم اليقين وعين اليقين كالفرق بين الخبر الصادق والعيان. وحق اليقين: فوق هذا.

وقد مثلت المراتب الثلاثة بمَن أخبرك: أن عنده عسلًا، وأنت لا تشك في صدقه، ثم أراك إياه فازددتَ يقينًا، ثم ذقتَ منه؛ فالأول: علم اليقين. والثاني: عين اليقين. والثالث: حق اليقين.

فعلمنا الآن بالجنة والنار: علم يقين، فإذا أزلفت الجنة في الموقف للمتقين وشاهدها الخلائق، وبرزت الجحيم للغاوين وعاينها الخلائق؛ فذلك: عين اليقين، فإذا أدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار؛ فذلك حينئذٍ حق اليقين" (انتهى كلام ابن القيم -رحمه الله-).

قلتُ: وكلام السلف في حق اليقين ليس كما ذكره، فإن الله -عز وجل- قد ذكر حق اليقين في موضعين من كتابه؛ ذكر ذلك في سورة الواقعة، وذكر ذلك في سورة الحاقة، وكلام أهل العلم بالتفسير في حق اليقين: أنه الخبر الحق الذي هو يقين، فليس ما ذكره مع كونه صحيح المعنى هو الذي قُصِد بآيات القرآن التي ذكرت ذلك.

قال ابن جرير -رحمه الله- في قوله -تعالى- في سورة الواقعة: (‌إِنَّ ‌هَذَا ‌لَهُوَ ‌حَقُّ ‌الْيَقِينِ(الواقعة: 95): "يقول تعالى ذكره: إن هذا الذي أخبرتكم به أيها الناس من الخبر عن المقرَّبين وأصحاب اليمين، وعن المكذِّبين الضالين، وما إليه صائرة أمورهم؛ لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ، يقول: لهو الحقُّ مِن الخبر اليقين لا شكَّ فيه"، ثم رَوَى عن مجاهد: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) قال: "الخبر اليقين".

وعن قتادة: "(وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ . فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ . إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) حتى ختم، إن الله -تعالى- ليس تاركًا أحدًا من خلقه حتى يوقفه على اليقين من هذا القرآن؛ فأما المؤمن فأيقن في الدنيا، فنفعه ذلك يوم القيامة، وأما الكافر فأيقن يوم القيامة حين لا ينفعه".

وقال ابن كثير -رحمه الله- في هذه الآية: "أي: إن هذا الخبر لهو حق اليقين الذي لا مرية فيه، ولا محيد لأحدٍ عنه".

وقال ابن جرير -رحمه الله- في قوله -تعالى- في سورة الحاقة: (وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ(الحاقة: 51)، يقول: "وإنه للحقّ اليقين الذين لا شكَّ فيه أنه من عند الله، لم يتقوَّله محمدٌ -صلى الله عليه وسلم-".

وقال ابن كثير -رحمه الله-: "(وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ) أي: الخبر الصدق الحق الذي لا مرية فيه، ولا شك، ولا ريب".

فهذا كله يدل على ما ذكرنا من أن استعمال أهل العلم بالتفسير مِن السَّلَف فمَن بعدهم، هو أن حق اليقين هو الخبر أيضًا، وليس ما هو أعلى من المعاينة من الذوق، وإن كان هذا المعنى الذي ذَكَره رائقًا؛ إلا أنه ليس بالذي يدل عليه دليل اللغة، ولا كلام السلف من المفسرين، والله أعلم.

قال ابن القيم -رحمه الله-: "وَتَأَمَّلْ حَالَ ذَلِكَ الصَّحَابِيِّ الَّذِي أَخَذَ تَمْرَاتِهِ وَقَعَدَ يَأْكُلُهَا، عَلَى حَاجَةٍ وَجُوعٍ وَفَاقَةٍ إِلَيْهَا، فَلَمَّا عَايَنَ سُوقَ الشَّهَادَةِ قَامَتْ؛ أَلْقَى قُوتَهُ مِنْ يَدِهِ، وَقَالَ: إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ إِنْ بَقِيتُ حَتَّى آكُلَ هَذِهِ التَّمْرَاتِ، وَأَلْقَاهَا مِنْ يَدِهِ، وَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ! وَكَذَلِكَ أَحْوَالُ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ-".

انتهى باختصارٍ، وقد حذفتُ فيه الإشارات غير الصحيحة التي أشار إليها الهروي، وما ذكره ابن القيم -رحمه الله- في بيان ما يجب أن يكون فيه فناء المؤمن وهو الفناء في توحيد الإلهية بحبه -سبحانه وتعالى- عن حبِّ مَن سواه وبمراده من الخلق عن مراد حظوظهم، فلم يكونوا عاملين على فناء، ولا الاستغراق في الشهود، بل فنوا بمراده عن مرادهم، ولا حاجة لنا إلى تشقيقات كلام الصوفية في مقاماتهم؛ فقد أغنانا الله -عز وجل- بالكتاب والسنة.

والحمد لله رب العالمين.