وقفات مع حديث السحابة (4)

  • 68

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فما زلنا مع حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: (بَيْنَما رَجُلٌ بفَلاةٍ مِنَ الأرْضِ، فَسَمِعَ صَوتًا في سَحابَةٍ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ، فَتَنَحَّى ذلكَ السَّحابُ، فأفْرَغَ ماءَهُ في حَرَّةٍ، فإذا شَرْجَةٌ مِن تِلكَ الشِّراجِ قَدِ اسْتَوْعَبَتْ ذلكَ الماءَ كُلَّهُ، فَتَتَبَّعَ الماءَ، فإذا رَجُلٌ قائِمٌ في حَدِيقَتِهِ يُحَوِّلُ الماءَ بمِسْحاتِهِ، فقالَ له: يا عَبْدَ اللهِ، ما اسْمُكَ؟ قالَ: فُلانٌ، لِلاِسْمِ الذي سَمِعَ في السَّحابَةِ، فقالَ له: يا عَبْدَ اللهِ، لِمَ تَسْأَلُنِي عَنِ اسْمِي؟ فقالَ: إنِّي سَمِعْتُ صَوتًا في السَّحابِ الذي هذا ماؤُهُ يقولُ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ، لاِسْمِكَ، فَما تَصْنَعُ فيها؟ قالَ: أمَا إذْ قُلْتَ هذا، فإنِّي أنْظُرُ إلى ما يَخْرُجُ مِنْها، فأتَصَدَّقُ بثُلُثِهِ، وآكُلُ أنا وعِيالِي ثُلُثًا، وأَرُدُّ فيها ثُلُثَهُ(رواه مسلم).

فبيَّن الرَّجُلُ عظيمَ شوقِهِ لمعرفةِ سِرِّ التوفيقِ الإلهيِّ والعِنايةِ الرَّبانيَّةِ التي حَظِيَ بها صاحب الحديقة؛ لأنَّ أمرَ هذه الحديقةِ أمرٌ غريبٌ، وشأنَهَا شأنٌ عجِيبٌ، فَسَألَهُ قائِلًا: (فَما تَصْنَعُ فيها؟)، أي: فأخبرني كيف وصلتَ إلى هذه الدَّرجة، وماذا تفعل في ثمارِها التي تسبَّبت في حُصُولِ هذه الكرامة؟! فقال له صاحبُ الحديقة: (أمَا إذْ قُلْتَ هذا...)، والمعنى: أني لم أكُن لأخبرَكَ لولا أنك بشَّرتني بهذه البِشَارةِ.

فالأصلُ والأفضلُ إخفاءُ الأعمالِ الصالحةِ التي يقومُ بها العبدُ، وألا يجاهرَ بها، وألا يعرِّضَها للبُطلان والحبُوط بالرِّياءِ السُّمعَةِ.

وكان هذا دأبُ السَّلف، ومن ذلك ما رواه ابن عَسَاكِرَ في "تاريخ دمشق" عن محمدِ بْنِ المُنْكَدِرِ (مِن أكابر التابعين)، قال: "إِني لِلَيْلَةٍ مُوَاجِهٌ هَذَا المِنبَرَ فِي جَوْفِ الليْلِ أدعُو، إِذَا إِنسَانٌ عِندَ أُسطُوَانَةٍ مُقَنِّعٌ رَأسَه، فَأسمَعُهُ يَقُولُ: أَيْ رَبِّ، إِنَّ القَحطَ قَدِ اشْتَدَّ عَلَى عِبَادِكَ، وَإِنِّي مُقسِمٌ عَلَيْكَ يَا رَبِّ إِلا سَقَيْتَهُم. قَالَ: فَمَا كَانَ إِلا سَاعَةٌ، إِذَا سَحَابَةٌ قَد أَقْبَلَتْ، ثُمَّ أرسَلَهَا اللهُ، (وَكَانَ عَزِيْزًا عَلَى ابْنِ المُنْكَدِرِ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الخَيْرِ)، فَقَالَ: هَذَا بِالمَدِيْنَةِ وَلا أَعْرِفُه! فَلَمَّا سَلَّمَ الإِمَامُ، تَقَنَّعَ وَانْصَرَفَ، وَأَتبَعُهُ، وَلَمْ يَجْلِسْ لِلْقَاصِّ حَتَّى أَتَى دَارَ أنَسٍ، فَدَخَلَ مَوْضِعًا، فَفَتَحَ، وَدَخَلَ، وَرَجَعتُ، فَلَمَّا سَبَّحتُ (صليتُ الضُّحى)، أَتَيتُهُ، فَقُلتُ: أَدخُلُ؟ قَالَ: ادْخُلْ، فَإِذَا هُوَ يُنَجِّرُ أَقْدَاحًا، فَقُلتُ: كَيْفَ أَصْبَحتَ؟ أَصْلَحَكَ اللهُ. قَالَ: فَاستَشهَرَهَا، وَأَعظَمَهَا مِنِّي، فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ، قُلْتُ: إِنِّي سَمِعْتُ إِقسَامَكَ البَارِحَةَ عَلَى اللهِ، يَا أَخِي، هَلْ لَكَ فِي نَفَقَةٍ تُغنِيكَ عَنْ هَذَا، وَتُفَرِّغُكَ لِمَا تُرِيْدُ مِنَ الآخِرَةِ؟

قَالَ: لا، وَلَكِنْ غَيْرُ ذَلِكَ، لا تَذْكُرُنِي لأَحَدٍ، وَلا تَذْكُرُ هَذَا لأَحَدٍ حَتَّى أَمُوْتَ، وَلا تَأْتِنِي يَا ابْنَ المُنْكَدِرِ، فَإِنَّكَ إِنْ تَأتِنِي شَهَرتَنِي لِلنَّاسِ، فَقُلْتُ: إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَلقَاكَ، قَالَ: الْقَنِي فِي المَسْجِدِ. قَالَ: وَكَانَ فَارِسِيًّا، فَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ المُنْكَدِرِ لأَحَدٍ حَتَّى مَاتَ الرَّجُلُ. قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: بَلَغَنِي أنَّهُ انتقَلَ مِنْ تِلْكَ الدَّارِ، فَلَمْ يُرَ، وَلَمْ يُدرَ أَيْنَ ذَهَبَ. فَقَالَ أَهلُ تِلْكَ الدَّارِ: اللهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ ابْنِ المُنْكَدِرِ، أَخْرَجَ عَنَّا الرَّجُلَ الصَّالِحَ".

ولكن إذا اضطُّر الإنسانُ إلى الإجابة عن شيءٍ مُعينٍ تطييبًا لخاطِرِ شخصٍ، أو أن يُقتدَى به أو نحو ذلك؛ فلا بأسَ أن يُخبِر عن عملِهِ الصالح، ما دامَ لا يقصِدُ الرَّياءَ والسُّمعَةَ.

وللحديث بقية -إن شاء الله-.