(فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ) (2)

  • 43

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد ذكر الله -عز وجل- لنا صورة توضيحية لعاقبة الشرك في قوله -تعالى-: (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) (الحج: 31)، فقد أعقب الله -عز وجل- نهيهم عن الأوثان بتمثيل فظاعة حال مَن يشرك بالله في مصيره إلى حال انحطاط، وتلقف الضلالات إياه، ويأسه من النجاة ما دام مشركًا، تمثيلًا بديعًا؛ إذ كان من قبيل التمثيل القابل لتفريق أجزائه إلى تشبيهات.

فمَن يشرك بالله فهو بمنزلة مَن سقط مِن السماء، وعرّض نفسه لأَبشع صورة من صور الهلاك حيث يتمزق قطعًا، ويتناثر أَشلاءً (فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ): وتتناول أَجزاءَه، فلا تبقي له أَثرًا، (أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ): أَو تشبه حاله بحال مَن عصفت به الريح في مكانٍ بعيدٍ، فكان فيه من الهالكين، وفي كلا التشبيهين تيئيس للكافر من النجاة؛ حيث لا يستطيع أَن يدفع عن نفسه الهلاك الذي ينزله الله به في الآخرة، وتلك صورة رعيبةٌ تجعل المرء يدفع عن نفسه أي شبهة أو فعل، أو قول، أو خاطرة قد تقربه ولو قليلًا من الشرك، أو تجعل فعله أو قوله محل خلاف بين أهل العلم؛ فهذا يكفره، وذاك يفسقه، وثالث يبدِّعه أو يخطئه في توحيده وعقيدته.

وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو سيد الموحِّدين يستعيذ بالله من أن يشرك بالله، ولو شركًا أصغر خفيًّا، وحثَّنا على ذلك بقوله: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أُشْرِكَ بِكَ وَأَنَا أَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لاَ أَعْلَمُ) (أخرجه البخاري في الأدب المفرد، وصححه الألباني).

وفي هذه الآية وجدنا للبلاغة أثرًا عجيبًا بديعًا في تجسيد الصورة القبيحة للشرك بالله من خلال نتيجته وسوء عاقبته في مرتكبه، وتهزك تلك البلاغة هزًّا حين يطرق سمعك في بداية الآية؛ هذا الشرط بأداته الجازمة (مَنْ) التي تحمل في طياتها النعيَّ على هؤلاء الذين أكرمهم الله بالفطرة والعقل، لكنهم انقلبوا عليهما وانسخلوا منهما في صلف، وكبر وعناد، وجحود وتكذيب، وإعراض، والشرط مِن مهامه الجليلة جذب الأسماع وإلهاب النفوس وتشوفها لما يكون من نتائج وجزاء، مع براعة فائقة في التأكيد على جلال القضية وما تتضمنه من أحكام، لا تقبل الهزل ولا المراء، ولا السفسطة.

ومَنْ يشرك بالله؛ فهو مجرم ارتكب أعظم الموبقات، وأكبر المنكرات، واستحق في مقابله جزاءً تقشعر له الجلود، وتندك له الجبال، وتخرُّ من هوله هدًّا، وهذا الجزاء لا مراجعة فيه، بل هو حكم مؤكد، والقضية برمتها بهذا الشرط وأركانه واضحة، لا يتسرب إليها الريب والشك، ومن هنا نعلم أنّ الحقائق اللغوية بين التراكيب تتجاوب مع الموضوعات وتنساق لها، وأن التعامل مع النص القرآني يقتضي دراسة الخطاب، ونسيجه اللغوي الذي يرفد النص بمدلولات لا متناهية، وقد أزبد أسلوب الشرط والتقيد به في بيان جريمة الشرك وعاقبتها بلغة مثمرة وآفاق متسعة، وبدا ذلك في صورة بلاغية كان لها أثرها المتدفق بعناصر القوة والجمال في خطاب ينبض بالحيوية والحركة.

ومِن هذا استحضار تلك الصورة المليئة بالهلاك لمَن خالف فطرته وقسرها وغصبها على خلاف ما فُطِرَت عليه من التوحيد لرب العبيد، مع جرس صوتي ذي وقع شديد يستحيل معه التغافل والانفكاك عن تلك الصورة الحاضرة، (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ).

وتلحظ أن (خَرَّ) ترتبط بارتفاعٍ بعيدٍ، خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ بحيث لا تستطيع قوة أنْ تحميه، أو تمنعه؛ لا بذاته، ولا بغيره، وقبل أن يصل إلى الأرض تتخطفه الطير، فإنْ لم تتخطفه؛ تهوي به الريح في مكانٍ بعيدٍ وتتلاعب به، فهو هالك هالك لا محالةَ، ولو كانت واحدة من هذه الثلاث لكانت كافية.

قال الزمخشري في التفسير: "يجوز في هذا التشبيه أن يكون من المركب والمفرق، فإن كان تَشْبِيهًا مُرَكَّبًا فَكَأَنَّهُ قال: مَنْ أَشْرَكَ باللَّه فَقَدْ أَهْلَكَ نَفْسَهُ إِهْلَاكًا ليس بعده نهاية، بأن صور حاله بصورة حال مَن خرَّ مِن السماء فاختطفته الطير، فتفرق مزعًا في حواصلها، أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المطاوح البعيدة. وإن كان مفرقًا فقد شبه الإيمان في علوه بالسماء، والذي ترك الإيمان وأشرك بالله بالساقط من السماء، والأهواء التي تتوزع أفكاره بالطير المختطفة، والشيطان الذي يطوّح به في وادي الضلالة بالريح التي تهوي بما عصفت به في بعض المهاوي المتلفة".

وقد أحسن الزمخشري في الجانب الأول من كلامه، لكن بقية الكلام فيه نظر؛ قال ابن المنير السكندري في حاشيته على الكشاف: "وفي تقريره تشبيه الأفكار المتوزعة للكافر بالطير المختطفة، وفي تشبيه تطويح الشيطان بالهوى مع الريح في مكان سحيق، نظر؛ لأن الأمرين ذُكِرا في سياق تقسيم حال الكافر إلى قسمين، فإذا جعل الأول مثلًا لاختلاف الأهواء والأفكار، والثاني مثلًا لنزغ الشيطان؛ فقد جعلهما شيئًا واحدًا؛ لأن توزع الأفكار واختلاف الأهواء مضاف إلى نزغ الشيطان، فلا يتحقق التقسيم المقصود.

والذي يظهر في تقرير التشبيهين غير ذلك، فنقول: لما انقسمت حال الكافر إلى قسمين لا مزيد عليهما، الأول منهما: المتذبذب والمتمادي على الشك وعدم التصميم على ضلالة واحدة، فهذا القسم من المشركين مشبه بمن اختطفته الطير وتوزعته فلا يستولي طائر على مزعة منه إلا انتهبها منه آخر، وذلك حال المذبذب لا يلوح له خيال إلا اتبعه ونزل عما كان عليه. والثاني: مشرك مصمم على معتقد باطل، لو نشر بالمباشير لم يكع ولم يرجع لا سبيل إلى تشكيكه، ولا مطمع في نقله عما هو عليه، فهو فرح مبتهج لضلالته، فهذا مشبه في إقراره على كفره باستقرار مَن هوت به الريح إلى واد سافل فاستقر فيه، ونظير تشبيهه بالاستقرار في الوادي السحيق الذي هو أبعد الأخباء عن السماء، وصف ضلاله بالبعد في قوله -تعالى-: (أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ)، و(ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا) أي: صمموا على ضلالهم، فبَعُد رجوعهم إلى الحق، فهذا تحقيق القسمين. والله أعلم).