في زمن موت الفجأة... إياك والغفلة!

  • 139

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فالمراد بموت الفجأة: الموت الذي يداهم الإنسان فجأة فيرديه في لحظات، فلا يستطيع له دفعًا، ولا قبل خروج الروح تصرفًا، وقد ورد في الحديث: أن مَن علامات الساعة أن يكثر في الناس القتل في أيام هرج ومرج، وأن يكثر وقوع الزلازل والحوادث العنيفة آخر الزمان، فيكون حال الناس كحال يوم القيامة الذي قال الله -تعالى- في شأنه: (‌مَا ‌يَنْظُرُونَ ‌إِلَّا ‌صَيْحَةً ‌وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ . فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ) (يس: 49-50)، وهذا يعني كثرة موت الفجأة، وهو ما نشاهده في زماننا يومًا بعد يوم.

وموت الفجأة قد يكون جماعيًّا يباغت جماعات من الناس معًا كما يقع في النوازل الشديدة، كما في الزلازل، وفي الانهيارات الأرضية، والخسف، وحوادث السيارات، وسقوط الطائرات، ونحو ذلك، وقد يكون موت الفجأة فرديًّا يباغت الشخص بمفرده نتيجة إصابة هذا الشخص فجأة بجلطة أو سكتة قلبية، أو توقف مفاجئ لنبض القلب.

ولما كانت الأعمال بالخواتيم، وأن المرء يبعث يوم القيامة على الحالة التي مات عليها في الدنيا من طاعة أو معصية، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: (‌يُبْعَثُ ‌كُلُّ ‌عَبْدٍ ‌عَلَى ‌مَا ‌مَاتَ ‌عَلَيْهِ) (رواه مسلم)؛ يتبيَّن لنا خطورة أن يقع الإنسان في غفلة تطول أو تقصر، ويقترف فيها شيئًا من الآثام والذنوب؛ خاصة الكبائر، ويطول به وقت الذنب، ولا يستدركه باستغفار وتوبة، أو يعمل بعده عملًا صالحًا يذهب بسيئة هذا الذنب، فيصيبه موت الفجأة وهو على ذلك فيبعث على ما مات عليه؛ لذا كان من الخطورة بمكان في هذا الزمان أن تتمكَّن الغفلة من الإنسان، وكان من الحزم أن يتقيظ الإنسان لأعماله وأحواله، ويتنبه لنفسه فلا يجرفه تيار، ولا يستدرجه إمهال؛ لئلا تكون العاقبة وخيمة.

المراد بالغفلة:

الغفلة والسهو والنسيان كلها أمور متقاربة في المعنى لغة؛ فالغفلة: سهو من قلة تيقظ وتحفظ، وهي استتار الشيء في بعض الأحوال. وأغفل الشيء: تركه إهمالًا من غير نسيان.

والغفلة أكثر ما تقال فيما تركته وحقه أن لا يترك، كما في قول يعقوب -عليه السلام- لإخوة يوسف -عليه السلام-: (‌إِنِّي ‌لَيَحْزُنُنِي ‌أَنْ ‌تَذْهَبُوا ‌بِهِ ‌وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ) (يوسف: 13)، وكما في قوله -تعالى- للمؤمنين محذرًا لهم من الغفلة عن السلاح وقت الحرب: (‌وَدَّ ‌الَّذِينَ ‌كَفَرُوا ‌لَوْ ‌تَغْفُلُونَ ‌عَنْ ‌أَسْلِحَتِكُمْ ‌وَأَمْتِعَتِكُمْ ‌فَيَمِيلُونَ ‌عَلَيْكُمْ ‌مَيْلَةً ‌وَاحِدَةً) (النساء: 102)، وقال -تعالى-: (‌وَاقْتَرَبَ ‌الْوَعْدُ ‌الْحَقُّ ‌فَإِذَا ‌هِيَ ‌شَاخِصَةٌ ‌أَبْصَارُ ‌الَّذِينَ ‌كَفَرُوا ‌يَاوَيْلَنَا ‌قَدْ ‌كُنَّا ‌فِي ‌غَفْلَةٍ ‌مِنْ ‌هَذَا ‌بَلْ ‌كُنَّا ‌ظَالِمِينَ) (الأنبياء: 97). ومنه المغفل: مَن لا فطنة له، والغُفل (بضم الغين) مِن الرجال: مَن لم تحنكه التجارب.

 - والسهو: ترك الشيء مع العلم به، سها عنه: تركه مع العلم به؛ فهو ساه وسهوان، فالسهو: الغفلة والذهول عن الشيء. ساهاه: غافله، وسهاه: جعله يسهو، غافله. والسهو أكثر ما يقال فيما فعلته ولم يكن حقه أن يفعل.

- أما النسيان: فهو فقدان مؤقت لما حفظه الذهن من صور أو كلام أو أفكار، وهو انحذاف ذكر الشيء عن القلب.

وكما جاء التحذير من الغفلة وبيان خطورتها على الإنسان في القرآن الكريم والسنة النبوية، فالتحذير والتحرز منها كان هدي السلف الصالح وصالحي الأمة، فعن أبي عبيدة بن الجراح -رضي الله عنه- قال: "التهلكة هي: أن يذنب العبد ذنبًا ثم لا يعمل بعده خيرًا حتى يهلك". 

وعن زهير بن أبي نعيم أن رجلًا قال له: "يا أبا عبد الرحمن أتوصي بشيء؟ قال: نعم احذر أن يأخذك الله وأنت على غفلة" (صفوة الصفوة).  

قال ابن عثيمين -رحمه الله-: "إذا رأيتَ وقتك يمضي وعمرك يذهب وأنت لم تنتج شيئًا مفيدًا، ولا نافعًا؛ فاحذر أن يكون أدركك قوله -تعالى-: (‌وَلَا ‌تُطِعْ ‌مَنْ ‌أَغْفَلْنَا ‌قَلْبَهُ ‌عَنْ ‌ذِكْرِنَا ‌وَاتَّبَعَ ‌هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) (الكهف: 28)، أي: انفرط عليه، وصار مشتتا لا بركة فيه، وليعلم أن البعض قد يذكر الله، ولكنه يذكره بقلب غافل؛ لذا لا ينتفع).

الله لا يغفل عن عباده أبدًا:

وقد بيَّن القرآن الكريم في آيات كثيرة أن العبد إن كان يغفل؛ فإن الله -تعالى- لا يغفل عنه، وأن الله -عز وجل- يكتب ويحصي على العباد جميعًا أعمالهم كلها في الدنيا، وسوف يحاسبهم الله -تعالى- عليها كاملة يوم القيامة وإن نسوها، الخير بالخير والسيئة بمثلها (‌فَمَنْ ‌يَعْمَلْ ‌مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ . وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (الزلزلة: 7 -8)، فمثلًا: تكرر قوله -تعالى-: (‌وَمَا ‌اللَّهُ ‌بِغَافِلٍ ‌عَمَّا ‌تَعْمَلُونَ) في سورة البقرة في الآيات: 74، و85، و140، 144، و149، وفي سورة آل عمران في الآية 99، وتكرر قوله -تعالى-: (‌وَمَا ‌رَبُّكَ ‌بِغَافِلٍ ‌عَمَّا ‌تَعْمَلُونَ) في سورتي: الأنعام الآية 132، والنمل الآية 93، وجاء في سورة المؤمنون قوله -تعالى-: (‌وَلَقَدْ ‌خَلَقْنَا ‌فَوْقَكُمْ ‌سَبْعَ ‌طَرَائِقَ ‌وَمَا ‌كُنَّا ‌عَنِ ‌الْخَلْقِ ‌غَافِلِينَ) (المؤمنون: 17)، وقال -تعالى-: (‌وَلَا ‌تَحْسَبَنَّ ‌اللَّهَ ‌غَافِلًا ‌عَمَّا ‌يَعْمَلُ ‌الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ . مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ) (إبراهيم: 42-43).

كثرة الغافلين:

وفي ذم الغفلة وبيان أن كثيرًا من الناس يقعون فيها فتهلكهم، وردت الآيات الكثيرة في ذلك المعنى؛ قال -تعالى-: (‌وَلَقَدْ ‌ذَرَأْنَا ‌لِجَهَنَّمَ ‌كَثِيرًا ‌مِنَ ‌الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) (الأعراف: 179)، وقال -تعالى-: (‌إِنَّ ‌الَّذِينَ ‌لَا ‌يَرْجُونَ ‌لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ . أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (يونس: 7- 8)، وقال -تعالى-: (‌وَإِنَّ ‌كَثِيرًا ‌مِنَ ‌النَّاسِ ‌عَنْ ‌آيَاتِنَا ‌لَغَافِلُونَ) (يونس: 92)، وقال -تعالى-: (‌ذَلِكَ ‌بِأَنَّهُمُ ‌اسْتَحَبُّوا ‌الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ . أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ . لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (النحل: 107-109)، وقال -تعالى-: (‌وَعْدَ ‌اللَّهِ ‌لَا ‌يُخْلِفُ ‌اللَّهُ ‌وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ . يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) (الروم: 6- 7)، وقال -تعالى-: (‌لِتُنْذِرَ ‌قَوْمًا ‌مَا ‌أُنْذِرَ ‌آبَاؤُهُمْ ‌فَهُمْ ‌غَافِلُونَ) (يس: 6)، وقال الله -تعالى- في قوم فرعون: (‌فَلَمَّا ‌كَشَفْنَا ‌عَنْهُمُ ‌الرِّجْزَ ‌إِلَى ‌أَجَلٍ ‌هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ . فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ) (الأعراف: 135-136)، وقال -تعالى-: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ‌وَكَانُوا ‌عَنْهَا ‌غَافِلِينَ) (الأعراف: 146)، وقال -تعالى-: (‌أَنْ ‌تَقُولُوا ‌يَوْمَ ‌الْقِيَامَةِ ‌إِنَّا ‌كُنَّا ‌عَنْ ‌هَذَا ‌غَافِلِينَ) (الأعراف: 172)، وقال -تعالى-: (‌وَاذْكُرْ ‌رَبَّكَ ‌فِي ‌نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ) (الأعراف: 205)، وقال -تعالى-: (‌يَا وَيْلَنَا ‌قَدْ ‌كُنَّا ‌فِي ‌غَفْلَةٍ ‌مِنْ ‌هَذَا ‌بَلْ ‌كُنَّا ‌ظَالِمِينَ) (الأنبياء: 97)، وقال -تعالى-: (‌وَأَنْذِرْهُمْ ‌يَوْمَ ‌الْحَسْرَةِ ‌إِذْ ‌قُضِيَ ‌الْأَمْرُ ‌وَهُمْ ‌فِي ‌غَفْلَةٍ ‌وَهُمْ ‌لَا ‌يُؤْمِنُونَ) (مريم: 39)، وقال -تعالى-: (‌اقْتَرَبَ ‌لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ . مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ . لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) (الأنبياء: 1- 3)، وقال -تعالى-: (‌وَجَاءَتْ ‌كُلُّ ‌نَفْسٍ ‌مَعَهَا ‌سَائِقٌ وَشَهِيدٌ . لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (ق: 50).

وأسوأ الغفلة ما كانت مع كبر السن وقرب نهاية الأجل، نسأل الله -تعالى- العافية وحسن الخاتمة، قال الله -تعالى-: (أَوَلَمْ ‌نُعَمِّرْكُمْ ‌مَا ‌يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ) (فاطر: 37)، قال ابن عباس -رضي الله عنهما- معناه: أَوَلَمْ نعمركم ستين سنة، قال الحسن والكلبي ومسروق: أربعين سنة، ونقل عن ابن عباس أيضًا. وذكر عن أهل المدينة أنهم كانوا إذا بلغ أحدهم أربعين سنة تفرَّغ للعبادة. وفي قول الله -تعالى-: (وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ) قال عكرمة وابن عيينة وغيرهما عن النذير: الشيب. وفي الحديث قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أَعْذَرَ اللهُ إِلَى امْرِئٍ أَخَّرَ أَجَلَهُ حَتَّى بَلَّغَهُ ‌سِتِّينَ ‌سَنَةً) (رواه البخاري).

والأولى خاصة مع كبر السن قطع الأمل في الدنيا، والإكثار من ذكر الموت والاستعداد له بالإكثار من العمل الصالح وترك المعاصي والذنوب، فعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: خَطَّ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَطًّا مُرَبَّعًا، ‌وَخَطَّ ‌خَطًّا ‌فِي ‌الْوَسَطِ ‌خَارِجًا ‌مِنْهُ، وَخَطَّ خُطُطًا صِغَارًا إِلَى هَذَا الَّذِي فِي الْوَسَطِ مِنْ جَانِبِهِ الَّذِي فِي الْوَسَطِ، وَقَالَ: (هَذَا الْإِنْسَانُ وَهَذَا أَجَلُهُ مُحِيطٌ بِهِ، أَوْ قَدْ أَحَاطَ بِهِ، وَهَذَا الَّذِي هُوَ خَارِجٌ أَمَلُهُ، وَهَذِهِ الْخُطُطُ الصِّغَارُ الْأَعْرَاضُ، فَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا، وَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا) (رواه البخاري)، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (أَكْثِرُوا ‌ذِكْرَ ‌هَاذِمِ ‌اللَّذَّاتِ) يعني: الموت، (رواه الترمذي، وقال الألباني: حسن صحيح)

لا تصاحب الغافلين:

وفي التحذير من مصاحبة الغافلين وطاعتهم فيما هم عليه من الغفلة، قال -تعالى-: (‌وَلَا ‌تُطِعْ ‌مَنْ ‌أَغْفَلْنَا ‌قَلْبَهُ ‌عَنْ ‌ذِكْرِنَا ‌وَاتَّبَعَ ‌هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) (الكهف: 28).

وفي المقابل: جاء الأمر في القرآن الكريم بملازمة الصالحين الذاكرين، قال -تعالى-: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ ‌بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) (الكهف: 28).

ومما يعين على حضور القلب عند الذكر: دوام التفكر في معاني تلك الأذكار، واستحضار إطلاع الله -تعالى- على العبد ورؤيته له ونظره إليه وهو يذكره، ودوام اللجوء إلى الله -تعالى- في أن يحمي القلب، ويجعله حاضرًا عند ذكره -سبحانه-؛ فإن القلب بين إصبعين من أصابعه -سبحانه- يقلبها كيف يشاء.

توابع الغفلة:

الغفلة إذا طالت، والذنوب إذا استطالت، أوقعت العبد فيما هو أسوأ، بما تحدثه من تبعات سيئة على القلب، وبالتالي الجوارح، فالغفلة درجات، ولكل درجة منها تبعات، تبعد العبد عن الرب، وآخر مطافها الوقوع في الكفر، الذي هو أعظم الغفلة، فالكافر أشد الناس غفلة.

فمِن ذلك تعرض القلب إلى الغين أو الرين، أو الطبع عليه والختم والإقفال:

- ففي تعرض القلب للرين، قال -تعالى-: (وَمَا ‌يُكَذِّبُ ‌بِهِ ‌إِلَّا ‌كُلُّ ‌مُعْتَدٍ ‌أَثِيمٍ . إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ . كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (المطففين: 12-14)

قال ابن كثير في تفسيره: "قال الله -تعالى-: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) أي: ليس الأمر كما زعموا، ولا كما قالوا: إن هذا القرآن أساطير الأولين، بل هو كلام الله ووحيه وتنزيله على رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وإنما حجب قلوبهم عن الإيمان به ما عليها من الرين الذي قد لبس قلوبهم من كثرة الذنوب والخطايا؛ ولهذا قال الله -تعالى-: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ). والرين يعتري قلوب الكافرين، والغيم للمؤمنين، والغين للمقربين)". 

قال الأصفهاني: "الرين: صدأ يعلو الشيء الجلي. قال -تعالى-: (بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ) أي: صار ذلك كصدأ على جلاء قلوبهم، فعمي عليه معرفة الخير من الشر".

وقد روى ابن جرير والترمذي والنسائي وابن ماجه من طرق عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إِنَّ ‌الْعَبْدَ ‌إِذَا ‌أَذْنَبَ ‌ذَنْبًا ‌كَانَتْ ‌نُكْتَةٌ ‌سَوْدَاءُ ‌فِي ‌قَلْبِهِ، فَإِنْ تَابَ مِنْهَا صُقِلَ قَلْبُهُ، وَإِنْ زَادَ زَادَتْ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ). ولفظ النسائي: (إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِت فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ، فَإِنْ هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ صُقِل قَلْبُهُ، فَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ، فَهُوَ الرَّانُ الَّذِي قَالَ اللهُ: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)"، قال الترمذي عن الحديث: "حسن صحيح"، والحديث حسنه الألباني في صحيح الجامع (1670).

- وفي تعرض القلب للختم عليه، قال الله -تعالى-: (‌أَفَرَأَيْتَ ‌مَنِ ‌اتَّخَذَ ‌إِلَهَهُ ‌هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) (الجاثية: 23)، وقال -تعالى-: (‌إِنَّ ‌الَّذِينَ ‌كَفَرُوا ‌سَوَاءٌ ‌عَلَيْهِمْ ‌أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ . خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (البقرة:6-7).

والختم لغة: مِن ختم النحل ختمًا وختامًا، ملأ خليته عسلًا. وختم على الطعام والشراب: غطى فوهة وعائه، فهو مختوم. وختم على فمه: منعه الكلام. ويقال ختم على قلبه: جعله لا يفهم شيئًا. وختم الشيء: طبعه وأثر فيه بنقش الخاتم. والختم والطبع يقال على وجهين: الأول: تأثير الشيء كنقش الخاتم والطبع. والثاني: الأثر الحاصل عن النقش. وتجاوزًا يراد بالختم: الاستيثاق من الشيء والمنع منه، باعتبار ما يحصل من المنع بالختم على الشيء، كالختم على الأبواب والكتب.

- وفي تعرض القلب للطبع عليه قال الله -تعالى-: (‌فَبِمَا ‌نَقْضِهِمْ ‌مِيثَاقَهُمْ ‌وَكُفْرِهِمْ ‌بِآيَاتِ ‌اللَّهِ ‌وَقَتْلِهِمُ ‌الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا) (النساء: 155)، وقال -تعالى-: (‌إِنَّمَا ‌السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) (التوبة: 93)، وقال -تعالى-: (أَوَلَمْ يَهْدِ ‌لِلَّذِينَ ‌يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ) (الأعراف: 100)، وقال -تعالى-: (‌ثُمَّ ‌بَعَثْنَا ‌مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ) (يونس: 74)، وقال الله -تعالى-: (وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا ‌مُبْطِلُونَ (٥٨) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) (الروم: 58-59)، وقال -تعالى-: (‌الَّذِينَ ‌يُجَادِلُونَ ‌فِي ‌آيَاتِ ‌اللَّهِ ‌بِغَيْرِ ‌سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) (غافر: 35)، وقال -تعالى- في شأن المنافقين: (‌اتَّخَذُوا ‌أَيْمَانَهُمْ ‌جُنَّةً ‌فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ . ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ) (المنافقون: 2- 3)، وقال الله -تعالى-: (‌وَطُبِعَ ‌عَلَى ‌قُلُوبِهِمْ ‌فَهُمْ ‌لَا ‌يَفْقَهُونَ) (التوبة: 87)، وقال -تعالى-: (‌أُولَئِكَ ‌الَّذِينَ ‌طَبَعَ ‌اللَّهُ ‌عَلَى ‌قُلُوبِهِمْ ‌وَسَمْعِهِمْ ‌وَأَبْصَارِهِمْ) (النحل: 108)، وقال -تعالى-: (‌أُولَئِكَ ‌الَّذِينَ ‌طَبَعَ ‌اللَّهُ ‌عَلَى ‌قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ) (محمد: 16).

والطبع لغة أعم من الختم، فالطابع: ما يطبع به، كالخاتم: ما يختم به، والطبع أخص من النقش: فهو تصور الشيء بصورة ما، كطبع السكة والدراهم. والطبع والطبيعة هي السجية، قال -تعالى-: (كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ) (يونس: 74)، فالطبع نقش بصورةٍ ما، إما من حيث الخلقة، وإما من حيث العادة، والمطبوع: المملوء، فيقال: طبعت المكيال إذا ملأته، وذلك لكون الملء كالعلامة المانعة من تناول بعض ما فيه.

- وفي إقفال القلب قال الله -تعالى-: (‌أَفَلَا ‌يَتَدَبَّرُونَ ‌الْقُرْآنَ ‌أَمْ ‌عَلَى ‌قُلُوبٍ ‌أَقْفَالُهَا) (محمد: 24). والقفل: من قفلت الباب. وقد جعل القفل مثلًا لكل مانع للإنسان من تعاطي فعل، فيقال: فلان مقفل عن كذا. قوله -تعالى-: (‌أَمْ ‌عَلَى ‌قُلُوبٍ ‌أَقْفَالُهَا) أي: منعتها من التدبر. والقفل: جهاز من الحديد ونحوه يقفل به الباب، فيمنع الدخول منه. 

وقال الله -تعالى-: (‌وَنُقَلِّبُ ‌أَفْئِدَتَهُمْ ‌وَأَبْصَارَهُمْ ‌كَمَا ‌لَمْ ‌يُؤْمِنُوا ‌بِهِ ‌أَوَّلَ ‌مَرَّةٍ ‌وَنَذَرُهُمْ ‌فِي ‌طُغْيَانِهِمْ ‌يَعْمَهُونَ) (الأنعام: 110)

قال الشيخ عبد الرحمن السعدي في تفسيره للآية: "أي: ونعاقبهم إذا لم يؤمنوا أول مرة يأتهم فيها الداعي، وتقوم عليهم الحجة بتقليب القلوب، والحيلولة بينهم وبين الإيمان وعدم التوفيق لسلوك الصراط المستقيم. وهذا من عدل الله وحكمته بعباده؛ فإنهم الذين جنوا على أنفسهم، وفتح لهم الباب فلم يدخلوا، وبين لهم الطريق فلم يسلكوا، فبعد ذلك إذا حرموا التوفيق كان مناسبًا لأحوالهم".