يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا

  • 54

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فإنَّ صلاحَ الذرية واستقامتها، وسعادتها في الدنيا ونجاتها في الآخرة، من أعظم غايات المؤمنين والصالحين والمصلحين، بل هي دعوة الأنبياء والمرسلين؛ فيا لها من نعمةٍ عظيمةٍ! هي خيرٌ عندهم من كنوز الدنيا وذخائرها، وأروح لقلوبهم من زينتها وزخارفها، قال -تعالى-: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) (الفرقان: 74)، فلا تقر أعين الآباء بالأبناء حقيقةً إلا إذا كانوا صالحين، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "يعنون مَن يعمل بالطاعة فتقر به أعينهم في الدنيا والآخرة".

لقد كان صلاح الأبناء والذرية مطلب الأنبياء والمرسلين؛ فهذا إبراهيم -عليه السلام- يسأل الله -تعالى- صلاح ذريته، فقال: (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) (الصافات:100)، ودعا لهم بالتوحيد فقال: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ) (إبراهيم:35)، ودعا لهم بإقامة الصلاة؛ فقال: (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ) (إبراهيم:40)، وزكريا -عليه السلام- دعا ربه فقال: (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا . يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) (مريم:5- 6)، والوراثة هنا وراثة النبوة والدعوة، وليست وراثة المال وحمل الاسم.

ولقد حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- في غير ما حديث على حثِّ الآباء والأمهات لتربية الأبناء وتنشئتهم التنشئة الصالحة، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- معلِّمًا ابن عمه عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- وهو غلام صغير-: (يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ، احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا ‌اسْتَعَنْتَ ‌فَاسْتَعِنْ ‌بِاللَّهِ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

وإنَّ المتأمل للواقع الذي نعيشه اليوم يعلم كم يعاني الآباء لتحقيق هذه الأمنية العظيمة، فكم من صرخات مكتومة ضاقت بها صدورهم!

وكم من جراحات وهموم وأحزان تعتصر قلوبهم حسرةً على حال أبنائهم!

حالهم حال نبي الله نوح -عليه السلام- حين نادى على ابنه: (يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا) (هود: 42)؛ ذلك النداء الخالد الذي ما زال يدوي في جنبات الكون إلى يومنا هذا، وإلى أن يرِث الله -تعالى- الأرضَ ومَن عليها، إنه نداء لهفة قلب كل أبٍ مكلوم على ابنه الذي حاد عن الطريق، لعله ينجو بنفسه قبل فوات الأوان.

إنَّ هذا النداء الخالد: (يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا)، صراع ممتد بين أبوة ملهوفة مكلومة، وبنوة تعيش في غفلة وغرور؛ بنوَّة غارقة تأبى أن تستجيب، بل تزداد صلفًا وكِبرًا وغرورًا، بنوة تقول بقول ابن نوح -عليه السلام-: (قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ) (هود: 43).

(يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا)، صيحة نذير وصرخة تحذير لكلِّ ابن عاق، حاد عن الطريق، قبل أن يتغير المشهد ويأتي الموج الغامر كالجبال ليحسم الموقف في سرعة خاطفة راجفة؛ ليبتلع كل شيء، ويسدل الستار على المشهد الأخير: (وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) (هود: 43)