الاستعداد لشهر رمضان

  • 78

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (‌أَتَاكُمْ ‌رَمَضَانُ ‌شَهْرٌ ‌مُبَارَكٌ ‌فَرَضَ ‌اللَّهُ ‌عَلَيْكُمْ ‌صِيَامَهُ تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ وَتُغَلُّ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ لِلَّهِ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ) (رواه أحمد والنسائي، وصححه الألباني).

وفي الحديث:

- إن النبي -صلى الله عليه وسلم- بَشَّر أصحابَه بقدوم شهر رمضان، وحثهم على التهيؤ له من أول ليلة شهدوها فيه، وحفزهم ورغبهم في الإكثار من عمل الخير فيه.

- وفيه بيان فضل هذا الشهر المبارك، وفضل ليلة القدر التي هي من خصائصه.

- وفي الحديث جواز قول: (رمضان) بدلًا من (شهر رمضان)، خلافًا لمَن كرهه.

والأحاديث في فضل الصيام في رمضان -وفي غير رمضان- كثيرة، تؤكد على فضل هذه العبادة البدنية، وأن الصيام لا عدل له كما جاء في الحديث، ففي الحديث المرفوع: (مَنْ ‌صَامَ ‌يَوْمًا ‌فِي ‌سَبِيلِ ‌اللهِ ‌بَاعَدَ ‌اللهُ ‌مِنْهُ ‌جَهَنَّمَ ‌مَسِيرَةَ ‌مِائَةِ ‌عَامٍ) (رواه النسائي، وحسنه الألباني)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ ‌صَامَ ‌يَوْمًا ‌فِي ‌سَبِيلِ ‌اللَّهِ ‌جَعَلَ ‌اللَّهُ ‌بَيْنَهُ ‌وَبَيْنَ ‌النَّارِ ‌خَنْدَقًا ‌كَمَا ‌بَيْنَ ‌السَّمَاءِ ‌وَالأَرْضِ) (راه الترمذي، وقال الألباني: حسن صحيح)، وورد في الحديث المرفوع أن الصيام يشفع للعبد يوم القيامة (أَيْ رَبِّ ‌مَنَعْتُهُ ‌الطَّعَامَ وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهَارِ، فَشَفِّعْنِي فِيهِ) (رواه أحمد، وصححه الألباني).

ومما لا شك فيه: أن المسلم الحق يتغير تغيرًا كبيرًا في شهر رمضان، يتحول من البعد -إن وجد- إلى الإنابة، ومن الغفلة بمشاغل الدنيا -إن وجدت- إلى المداومة على الذِّكْر، فشهر رمضان فرض الله -تعالى- على العباد صيامه، ثم أجزل لهم العطاء العظيم على هذا الصيام، وشرع لهم فيه قيامه في جماعة في المسجد، وجعل من صلى القيام مع إمامه فيه حتى ينصرف من صلاته كلها احتسب له بذلك قيام الليلة، وذلك الشهر كله. 

ووعد مَن صام وقام الشهر بمغفرة كل ذنوبه السابقة عبر ما مضى من عمره، قال -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ ‌صَامَ ‌رَمَضَانَ ‌إِيمَانًا ‌وَاحْتِسَابًا ‌غُفِرَ ‌لَهُ ‌مَا ‌تَقَدَّمَ ‌مِنْ ‌ذَنْبِهِ) (متفق عليه)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ ‌قَامَ ‌رَمَضَانَ ‌إِيمَانًا ‌وَاحْتِسَابًا ‌غُفِرَ ‌لَهُ ‌مَا ‌تَقَدَّمَ ‌مِنْ ‌ذَنْبِهِ) (متفق عليه)

وفي رمضان فوق ذلك: ليلة القدر، التي العبادة فيها خير -أي: تزيد لا تساوي- من العبادة في ألف شهر، وتحري قيامها فيه المغفرة لذنب العبد، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) (متفق عليه)، فخاب وخسر مَن فاته هذا الخير الوفير.

وفي قوله -صلى الله عليه وسلم-: (إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا) قال النووي -رحمه الله-: (معنى إيمانًا: تصديقًا بأنه حق، معتقدًا فضيلته. ومعنى احتسابًا: أن يريد الله -تعالى- وحده، لا يقصد رؤية الناس، ولا غير ذلك مما ينافي الإخلاص).

وقد أخبر -تعالى- أن الغاية من صيام رمضان: تحقيق التقوى؛ قال -تعالى-: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) [البقرة: 183)، فالغاية من الصيام تزكية القلوب لا إمساك الجوارح، وإمساك الجوارح هي وسيلة لتحقيق تلك التقوى؛ لذا فليكن هم العبد طوال رمضان إدراك ما من أجله شرع الصيام وفرض. 

وهذا الثواب العظيم المتضاعف في رمضان يشترط له اجتناب الكبائر، كما جاء في الحديث عند مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا: (الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، ‌وَرَمَضَانُ ‌إِلَى ‌رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ) (رواه مسلم)، والحديث موافق لقوله -تعالى-: (‌إِنْ ‌تَجْتَنِبُوا ‌كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31)، بل إن من ذنوب العبد ما لا يكفرها إلا أداء هذه العبادات، ففي الحديث المتفق عليه: قوله -صلى الله عليه وسلم-: (‌فِتْنَةُ ‌الرَّجُلِ ‌فِي ‌أَهْلِهِ ‌وَمَالِهِ وَجَارِهِ، تُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ وَالصَّدَقَةُ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ) (متفق عليه).

وهذا يبيِّن خطر ارتكاب الكبائر من الذنوب، الفعلية منها: كالسرقة، وشرب الخمر، وأكل الربا، والقولية منها: كالغيبة، والنميمة، والبهتان، وقذف المحصنات.

وفي هذا تنبيه عظيم على حاجة المسلم إلى التوبة الصادقة من كبائر الذنوب؛ إذ لا تكفر هذه الكبائر إلا بالتوبة منها، بخلاف الصغائر التي يكفرها الاستغفار، وتمحوها الحسنات والمداومة على العبادات المفروضة؛ لذا فينبغي المبادرة إلى الإنابة الحقة إلى الله -تعالى- قبل ومع دخول رمضان وخلاله، وإلا حُرِم العبد من ثواب رمضان العظيم؛ فإياك -أخي المسلم- وإياك مِن الغفلة في رمضان، وارتكاب الذنوب عامة، والكبائر خاصة. 

وهذا الفضل العظيم لشهر رمضان وعظم الثواب فيه، يوجب على المسلم الاستعداد الجيد له وتهيئة النفس لاستقباله؛ فهو موسم للخير ينصب لمدة شهر، سريعًا ما ينقضي، يتاجر فيه العبد مع ربِّه تجارة رائجة، فيربح في سوق رمضان مَن ربح ويخسر فيه مَن خسر، والمسلم الحق أشد حرصًا على نيل ثواب الآخرة من حرص أصحاب الدنيا على تحصيل مكاسب الدنيا. 

ونحن نرى مع دخول رمضان التجار والبائعين -بل والفاسدين والمفسدين- يستعدون غاية الاستعداد ويجتهدون غاية الاجتهاد لتحقيق أكبر ربح دنيوي ممكن في شهر رمضان، فالمسلم الحق ينبغي أن يكون أشد منهم حرصًا على الفوز بثواب رمضان الأخروي من حرص هؤلاء على ربحهم الدنيوي فيه، ومن كمال هذا الحرص: الاستعداد والتهيؤ لشهر رمضان من قبل دخوله ما استطاع.

وعجلت إليك ربي لترضى:

من علامات الصلاح والحرص على رضا الله -تعالى- المبادرة إلى الخيرات والمنافسة على الأعمال الصالحة، ومن تمام ذلك الاستعداد للعمل قبل حضور أوانه ودخول زمانه، قال -تعالى- في حق أناس لم يعدوا للعمل عدته: (وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ ‌لَأَعَدُّوا ‌لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ) (التوبة: 46)، فعلامة الصدق في الحرص على الخير الاستعداد له والمسارعة في أدائه، ونقيض ذلك ترك الاستعداد للخير والتباطؤ في الدخول فيه وأدائه. 

وقد كان من هدي سلفنا الصالح، وأئمة الهدى، وصالحي الأمة جيلًا بعد جيلٍ: الاستعداد لرمضان من قبل مجيئه ودخوله بأمورٍ، منها:

- إذا اقترب شهر رمضان أكثروا من الدعاء أن يبلغهم الله الشهر ويعينهم على الطاعة فيه.

- فإذا كان شهر رجب وشهر شعبان أكثروا من صيام التطوع فيهما؛ تدريبًا للأبدان والنفوس على الصيام وتعودًا عليه؛ يرون أن الإكثار من الصيام والعبادة في شهري: رجب وشعبان، هو زرع يجنون ثماره ويحصدون نتاجه في شهر رمضان، بالإقبال على العبادة بقوة من بداية الشهر، استغلالًا لكلِّ لحظة فيه في الطاعة بهمة عالية.

 - فإذا ازداد اقتراب الشهر انشغلوا بدراسة ومراجعة أحكام الصيام الفقهية وتذكير أنفسهم والناس بها، والنظر في هديه -صلى الله عليه وسلم- في شهر رمضان، وهدي أصحابه والسلف الصالح لشحذ الهمم استعدادا لهذا الشهر المبارك.

ومعلوم أن البدء في أي عمل يحتاج إلى فترة زمنية ما بين الهم به والبدء فيه، وبين الوصول إلى أعلى أداء له ممكن، وهذه الفترة تعرف علميًّا باسم: (الفترة الكامنة)، وهي تتفاوت من شخص إلى آخر، ومن عمل إلى آخر، لكن يترتَّب عليها استغراق بعض الوقت يطول أو يقصر من وقت بدء العمل إلى بلوغ أعلى أداء له، ولهذا نرى كل الرياضيين يحرصون كل الحرص على أداء بعض تمارين الإحماء قبل بدء المباريات وخوض المسابقات الرياضية بفترة زمنية مناسبة، طالت أو قصرت، فإذا بدأ اللاعبون المباراة أو المسابقة كانوا على أعلى درجات الاستعداد والعطاء من الوهلة الأولى فيها، وحققوا بذلك أفضل النتائج المطلوبة منهم، ولا شك أن حرص المسلم على اغتنام لحظات شهر رمضان كلها من أولها إلى آخرها أولى بذلك.

فكل طاعة من أول لحظة في رمضان إلى آخر لحظة فيه ثوابها كبير لا يليق التفريط فيها، بل قد تدرك العتق من النار الذي تتمناه -أخي الصائم- من أول ليلة في رمضان. 

فيا مَن تفرِّط في أداء العبادات والطاعات على وجهها الأفضل في أول ليلة من رمضان: أما علمتَ أن لله -تعالى- عتقاء من النار في كل ليلة من ليالي رمضان؟! 

وأول ليلة مِن رمضان من هذه الليالي، وفيها مِن الناس مَن لم تعلُ همته بعد؛ فهو في هذه الفترة الكامنة من العمل، فربما تفوته صلاتي: المغرب والعشاء في جماعة، أو تفوته صلاة الفجر في جماعة، وربما فاتته صلاة التراويح في هذه الليلة الأولى من الشهر وانشغل عنها، أو لم يتنبه إلى أنها داخلة في قيام الشهر، فيحرم نفسه مع بدء دخول الشهر من أجر قيام الشهر كاملًا؛ إذ ليس حاله كحال من صلى ليالي الشهر كاملة من أول ليلة فيه إلى آخر ليلة، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وربما كان غيره ممن بدأ الشهر من أول ليلة فيه بقوة من باب: (‌وَعَجِلْتُ ‌إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى) (طه: 84)، قد عتقت رقبته في هذه الليلة الأولى، والله ذو الفضل العظيم.

في رمضان لا تلتفت عن الطاعات: 

لقد كان مِن هدي السلف الصالح ومَن بعدهم مِن الصالحين: الاجتهاد في العبادة والأعمال الصالحة طوال شهر رمضان، لا يدخرون في ذلك جهدًا يقدرون عليه، فكان لسان حال غالبهم (‌وَلَا ‌يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ) (الحجر: 65)، ومنهم مَن كان لو قيل: إن يوم القيامة غدًا؛ فاجتهد في العبادة أكثر مما أنتَ فيه، لم يجد ما يزيده على ما هو عليه من العبادة والعمل الصالح شيئًا، فهؤلاء لسان حالهم: "لن يسبقني إلى الله أحدٌ". 

ولا يكون كل ذلك -أخي المسلم- إلا باعتبار شهر صومك في العبادة والعمل الصالح كأنه أول شهر رمضان تشهده في حياتك فتقبل عليه بلهفة، وإلا باعتبار شهر صومك في الحرص على تحصيل الأجر والثواب وكأنه آخر رمضان في حياتك، فلا يفوتك من الخير فيه شيء ما استطعت، فرغم أنف عبد شهد رمضان ولم يغفر له.

الصيام والعتق من النار:

أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن مَن صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه، والصوم هو: الامتناع عن المفطِّرات من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس مع النية، ولكن ينبغي التنبه هنا إلى أن تحقيق هذا التعريف للصيام لا يكفي وحده لنيل الأجر المرجو من الصيام إلا بإضافة درجتين أخريين معه، فللصيام درجات ثلاث مَن أتى بها جميعًا استكمل الصيام، ونال أجره كاملًا؛ وإلا فلا.

- فالحد الأدنى من الصيام: الامتناع عن المفطرات من دخول الفجر الصادق إلى غروب الشمس مع النية، فمن جاء به سقط عنه به فرض صيام ذلك اليوم، فلا يؤمر بقضائه بعد انتهاء شهر رمضان، ولكن هذا لا يكفيه لنيل أجر صيام اليوم حتى يضم إليه الدرجة الآتية، ألا وهي:

- الحد الأوسط من الصيام: وتكون بأداء الواجبات الشرعية اليومية المأمور بها، وترك المحرمات المنهي عنها، فلا يقع الصائم في المعاصي الصغيرة أو الكبيرة، فإن المخالفات الشرعية تنتقص من أجر الصيام، بل قد تضيع الكبائر أجر الصيام بالكلية.

فمَن صام أيام شهر رمضان وصانها من الذنوب غَفَر الله له ما تقدَّم من ذنوبه، ففي الحديث المرفوع عند مسلم: (الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، ‌وَرَمَضَانُ ‌إِلَى ‌رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ)، وفي الحديث المرفوع عند البخاري: (مَنْ ‌لَمْ ‌يَدَعْ ‌قَوْلَ ‌الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ)، وفي الحديث المرفوع عند الحاكم وابن حبان، وقد صححه الألباني في "صحيح الجامع": (‌لَيْسَ ‌الصِّيَامُ ‌مِنَ ‌الْأَكْلِ ‌وَالشُّرْبِ إِنَّمَا الصِّيَامُ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ، فَإِنْ سَابَّكَ أَحَدٌ، وَجَهِلَ عَلَيْكَ فَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ)؛ لذا جاء في الحديث المرفوع: (رُبَّ ‌صَائِمٍ ‌لَيْسَ ‌لَهُ ‌مِنْ ‌صِيَامِهِ إِلَّا الْجُوعُ، وَرُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلَّا السَّهَرُ) (رواه ابن ماجه، وقال الألباني: حسن صحيح)، وفي لفظ: (‌رُبَّ ‌صَائِمٍ ‌حَظُّهُ ‌مِنْ ‌صِيَامِهِ ‌الْجُوعُ ‌وَالْعَطَشُ، وَرُبَّ قَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ قِيَامِهِ السَّهَرُ) (رواه أحمد، وقال الألباني: حسن صحيح).

فاقتراف الصائم للصغائر ينتقص من ثواب صيامه، ما لم يسارع بالاستغفار والتوبة، وكلما ازدادت المعاصي زاد نقصان الأجر، وربما فقده كله بكثرتها والتمادي فيها؛ فإن عاجل نفسه بالإقلاع عنها والتوبة منها نفعه ذلك. 

وزكاة الفطر في آخر رمضان إنما شُرِعَت لتكون مطهرة لذنوب العبد من الصغائر التي وقع فيها طوال شهر رمضان، كما أنها طعمة للمساكين. 

أما اقتراف الصائم للكبائر -كالغيبة والنميمة والغش، وسباب المسلم، والكذب والرشوة، وترك الصلاة-؛ فهذا يضيع معه أجر الصيام بالكلية -كما هو مستفاد مما ذكرناه من الأحاديث-، نعم قد حقق الصائم الحد الأدنى المطلوب من الصيام، وهو الامتناع عن المفطرات وقت الصيام، وصيامه هذا صحيح يجزئ عند جماهير العلماء ولا يؤمر بالقضاء -ومِن الفقهاء مَن أوجب القضاء باقتراف الصائم للمعصية وهو قول ضعيف-، لكنه محروم من أجر الصيام، فمن جاء بهذا الحد الأوسط من الصيام نال أجره وهو مغفرة ما تقدم من ذنبه، كما ورد في الحديث.

وأعلى مِن ذلك أجرًا مَن جاء بالحد الآتي، وهو:

- الحد الأعلى من الصيام: ويكون باجتهاد الصائم بعد أداء الواجبات وترك المحرمات في الازدياد من أنواع الطاعات المستحبة والمندوبة في ليله ونهاره، مِن: صلاة النوافل المؤكدة وغير المؤكدة، وصلاة التراويح والتهجد، وقراءة القرآن، والتصدق بالمال والطعام، ومساعدة الفقراء والمحتاجين، والوقوف مع اليتامى والأرامل، ومدارسة القرآن والسنة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بآدابه وضوابطه، والالتزام بآداب الصيام وأخلاقه، والقيام بحقوق الأهل والأولاد، وصلة الأرحام، إلى آخر ذلك من الأعمال المقربة من الله -تعالى- التي ينال بها العبد رضا الله -تعالى- عنه ومحبته له. 

وهذا هو الحد من الصيام الذي يؤهل الصائم لأن يكون بفضل الله -تعالى- ورحمته ممَّن يعتق الله -تعالى- رقابهم من النار في شهر رمضان، ففي الحديث المرفوع عند الترمذي: (إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ ‌صُفِّدَتِ ‌الشَّيَاطِينُ، ‌وَمَرَدَةُ ‌الجِنِّ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ، وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الجَنَّةِ، فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ، وَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا بَاغِيَ الخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ، وَذَلكَ كُلُّ لَيْلَةٍ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني). وعند الإمام أحمد مرفوعًا بسندٍ صحيحٍ: (‌إِنَّ ‌لِلَّهِ ‌عُتَقَاءَ ‌فِي ‌كُلِّ ‌يَوْمٍ ‌وَلَيْلَةٍ، ‌لِكُلِّ ‌عَبْدٍ ‌مِنْهُمْ ‌دَعْوَةٌ ‌مُسْتَجَابَةٌ) يعني في رمضان.