خير ما تُستقبَل به مواسم الطاعات

  • 76

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فإن خيرَ ما تُستقبل به مواسم الطاعات: كثرة الاستغفار؛ لأن ذنوبَ العبد تحرمه التوفيق، وما ألزم عبد قلبه الاستغفار إلا زكى، وإن كان ضعيفًا قوي، وإن كان مريضًا شفي، وإن كان مبتلىً عوفي، وإن كان محتارًا هُدي، وإن كان مضطربًا سكن، والاستغفار هو الأمان الباقي لنا بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

وهو أشبه بغسل الثوب المتسخ وتنظيفه مما عَلَق به؛ فهو طهارة وتنقية للقلب قبل دخول المواسم الفاضلة؛ ليتهيأ القلب للإقبال على الله -تعالى-، وليكون أقدر -بإذن الله- على الاجتهاد في الطاعة، والتأثر بالعبادة؛ فيكون للطاعة أثر على القلب والنفس، والبدن، والسلوك والمعاملة.

والاستغفار هو: طلب ستر ذنب العبد من الله -تعالى-، والعفوِ عنه، وعدم المؤاخذة به، وصيانته من أن يمسَّه العذاب؛ فالعبد يطلب أمرين عظيمين كبيرين، وهما: ستر الذنب، وعدم العقوبة عليه؛ فلذلك لا بد من استحضار المؤمن عظمة ما يطلب وخطورته، فيخشع قلبه ويضرع، ويستحضر عظمة ربه وجلاله وكبريائه وسلطانه، فلا يكون الاستغفار مجرد كلمات تجري على اللسان دون حضور القلب وخشوعه، فمثل هذا الاستغفار يحتاج إلى استغفار.

وقسَّم الله الناس إلى قسمين: تائب وظالم لنفسه؛ فقال -تعالى-: (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الحجرات:11).

والعبد يستغفر من الذنب، ومن التقصير في حق الله -تعالى-، وعدم قيامه به كما ينبغي؛ فلذلك شرع الاستغفار عقب الصلوات، وبعد الإفاضة من عرفات، وغيرها من الطاعات؛ لجبر النقص والخلل الحادث في العبادة؛ فليس الاستغفار من الذنب فقط.

والاستغفار صفة الأنبياء والمرسلين، فرغم عصمتهم من الذنوب كثُر استغفارهم؛ لمعرفتهم بجلال الله -تعالى- وعظمته، وأنه لا يستطيع أحدٌ أن يوفي الله -تعالى- حقه، مع قصر عُمر العبد، فإذا كانت الملائكة مع طول أعمارها وطاعتها وعدم معصيتها طرفة عين، تقول لربها -تعالى-: "سبحانك، ما عبدناك حق عبادتك"، وصدقوا والله.

 فالنبي -صلى الله عليه وسلم- كان يُعَد له في المجلس الواحد أكثر من مائة مرة: "أستغفر الله وأتوب إليه"، مع مائة مرة في أذكار الصباح، ومثلها في أذكار المساء، فربما يستغفر في اليوم أكثر من ألف مرة، وهو سيد ولد آدم، وخير العباد -صلى الله عليه وسلم-.

ووصف الله -تعالى- إبراهيم -عليه السلام- بقوله -تعالى-: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ) (هود: 75)، وفي صفة المؤمنين عباد الله، قال -جل وعلا-: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (آل عمران: 135).

والعبد لا يمل ولا يترك الاستغفار مهما عظمت ذنوبه أو تكرَّرت، ففي حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- مَرْفُوعًا: («‌التَّائِبُ ‌مِنَ ‌الذَّنْبِ، ‌كَمَنْ ‌لَا ‌ذَنْبَ ‌لَهُ) (رواه ابن ماجه، وحسنه الألباني).

وقال عليٌّ -رضي الله عنه-: "خِيَارُكُمْ كُلُّ مُفَتَّنٍ تَوَّابٍ. قِيلَ: فَإِذَا عَادَ؟ قَالَ: يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَيَتُوبُ. قِيلَ: فَإِنْ عَادَ؟ قَالَ: يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَيَتُوبُ. قِيلَ: فَإِنْ عَادَ؟ قَالَ: يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَيَتُوبُ. قِيلَ: حَتَّى مَتَى؟ قَالَ: حَتَّى يَكُونَ الشَّيْطَانُ هُوَ الْمَحْسُورُ" (جامع العلوم والحكم لابن رجب)، وقيل للحسن البصري -رحمه الله-: "أَلَا يَسْتَحْيِي أَحَدُنَا مِنْ رَبِّهِ، يَسْتَغْفِرُ مِنْ ذُنُوبِهِ ثُمَّ يَعُودُ، ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ ثُمَّ يَعُودُ؟! فَقَالَ: وَدَّ الشَّيْطَانُ لَوْ ظَفِرَ مِنْكُمْ بِهَذِهِ؛ فَلَا تَمَلُّوا الِاسْتِغْفَارَ" (جامع العلوم والحكم لابن رجب).

فاللهم اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، وللمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات.