دفء اليد!

  • 55

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ 

فإن الأحاسيسَ المرهفة، والرحمة المتدفقة من قلب المؤمن ليعبِّر بها أحيانًا بالقول أو بالفعل، فإن يد المؤمن الحانية الدافئة لا تتمالك إذا رأت منكسرًا؛ إلا وتتلقاه بالرحمة وجبر الخاطر، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِذَا أَتَى أَحَدَكُمْ خَادِمُهُ بِطَعَامِهِ، فَإِنْ لَمْ يُجْلِسْهُ مَعَهُ، فَلْيُنَاوِلْهُ لُقْمَةً أَوْ لُقْمَتَيْنِ، ‌أَوْ ‌أُكْلَةً ‌أَوْ ‌أُكْلَتَيْنِ، ‌فَإِنَّهُ ‌وَلِيَ ‌عِلَاجَهُ) (رواه البخاري)، وفي رواية: (إِذَا ‌كَفَى ‌أَحَدَكُمْ ‌خَادِمُهُ ‌طَعَامَهُ ‌حَرَّهُ ‌وَدُخَانَهُ فَلْيَأْخُذْ بِيَدِهِ فَلْيُقْعِدْهُ مَعَهُ، فَإِنْ أَبَى فَلْيَأْخُذْ لُقْمَةً فَلْيُطْعِمْهَا إِيَّاهُ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

واليد الحانية تبحث عن الضعيف المنكسر الذي فقد أباه في صغره؛ فتحتويه بالرعاية والدفء، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إنْ أردْتَ تَلْيِينَ قلبِكَ؛ فَأَطْعِمْ المِسْكِينَ، وامْسَحْ رَأْسَ اليَتِيمِ) (رواه أحمد، وحسنه الألباني).

ولا شك أن اليتيم من الذين يحتاجون إلى هذه العناية، ويفتقرون إلى هذه الرعاية واللفتة الكريمة من المجتمع؛ فاليتيم إنسان ضعيف فقدَ قوَّةَ الأُبوَّة؛ فأين تلك اليد الحانية التي تنتشله من ضعفه، وتنقذه من عجزه، وتغرس في نفسه: إنكَ لستَ وحدك بعد أبيك، بل نحن معك كأبيك؛ فلا تهِن ولا تضعف.

واليتيم بعد فراق أبيه مستوحش؛ فأين ذلك الحضن الدافئ الذي يضمه ليؤنسه من وحشته، ويسعده في وحدته؟!

واليتيم بعد موت أبيه فقير ذهب عنه العائل السخي، الذي يعطي بلا حساب ولا منٍّ، بل يبذل بفرحٍ وحرص؛ فأين تلك الكف السخية التي تنسيه فقر اليتم وحاجته، فتعطيه ما يكفيه، وتضمه وتؤويه، وتنفق عليه غير مانَّة عليه؟!

واليد الدافئة الحانية؛ تعطف حتى على العصاة لهدايتهم والنهي عما اقترفوه، فعن أبي أمامة الباهلي -رضي الله عنه-: أَنَّ فَتًى شَابًّا أَتَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي بِالزِّنَا؟ فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ فَزَجَرُوهُ، وقَالُوا: مَهْ مَهْ -أي: اسكت-، فَقَالَ النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ادْنُهْ) فَدَنَا مِنْهُ قَرِيبًا فَجَلَسَ، قَالَ النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَتُحِبُّهُ لِأُمِّكَ؟) قَالَ: لَا وَاللَّهِ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ. قَالَ: (وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأُمَّهَاتِهِمْ)، قَالَ: (أَفَتُحِبُّهُ لِابْنَتِكَ؟)، قَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: (وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ)، قَالَ: (أَفَتُحِبُّهُ لِأُخْتِكَ؟)، قَالَ: لَا وَاللَّهِ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: (وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأَخَوَاتِهِمْ)، قَالَ: (أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ؟) قَالَ: لَا وَاللَّهِ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: (وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ)، قَالَ: (أَفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ؟) قَالَ: لَا وَاللَّهِ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: (وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِخَالَاتِهِمْ)، ثم وَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ وَقَالَ: (اللَّهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ، وَطَهِّرْ قَلْبَهُ، وَحَصِّنْ فَرْجَهُ). قال: فلم يكُنْ بعدَ ذلك الفتى يلتَفِتُ إلى شيءٍ. (رواه أحمد، وصححه الألباني).