الرسول القائد -صلى الله عليه وسلم- في غزوة بدر الكبرى

  • 86

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فتعد غزوة بدر الكبرى أول معركة حاسمة في تاريخ الإسلام، وقد وقعت هذه الغزوة في يوم الجمعة السابع عشر من شهر رمضان في السنة الثانية من الهجرة، وقد نصر الله -تعالى- المسلمين فيها نصرًا مؤزَّرًا رغم قلة عددهم وعتادهم في مواجهة جيش المشركين الأكبر منهم عددًا، وأكثر منهم عدة.

خرج المسلمون ليعترضوا طريق قافلة تجارية كبيرة لقريش قوامها ألف ناقة محملة ببضائع عائدة من الشام يقودها أبو سفيان بن حرب، وذلك بعد أن أخذت قريش الأموال والدور من المهاجرين.

كان عدد المسلمين بضعة وثلاثمائة رجلًا؛ إذ لم يظن المسلمون أن هناك مواجهة حاسمة ستقع مع جيش قريش، وإنما غرضهم هو التعرض لقافلة قريش ليس إلا، ولما بلغ أبا سفيان خروجُ المسلمين إليه أرسل على عجل رسولًا إلى قريش يطلب منها الإسراع لنجدة القافلة ثم عرج هو بالقافلة إلى مسارٍ آخر تجاه البحر بعيدًا عن المسلمين، فنجت، بينما هب رجالات قريش مسرعين في حشدٍ كبيرٍ تجاوز الألف رجل معهم مائة فرس وستمائة درع، وعدد كبير من الجمال لإنقاذ تجارتهم قبل وقوعها في أيدي المسلمين.

وسرعان ما وضحت الأمور؛ القافلة قد نجت والمسلمون قد فاتتهم القافلة، بينما جيش قريش صار قريبًا من المسلمين، وتضاربت آراء جيش قريش حول قتال المسلمين أو العودة لمكة، فأصر بعض زعماء قريش وفي مقدمتهم: أبو جهل على استكمال السير إلى حيث يتواجد المسلمين، لإظهار قوة قريش أمام العرب وإرهاب المسلمين، إذ كان أبو جهل لا يشك في تفوق قريش ومنعتها؛ لذا قال في كبر وتفاخر: "والله لا نرجع حتى نرد بدرًا، فنقيم عليه ثلاثًا، ننحر الجزور ونطعم الطعام ونسقي الخمر، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا، فلا يزالون يهابوننا أبدًا بعده".

وهكذا تلاقى الطرفان في قتالٍ على غير موعدٍ، كما قال -تعالى-: (‌إِذْ ‌أَنْتُمْ ‌بِالْعُدْوَةِ ‌الدُّنْيَا) بناحية الوادي وجانبه القريب (وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى) بالجهة البعيدة عنه (وَالرَّكْبُ) القافلة التي نجت (أَسْفَلَ مِنْكُمْ) في مكان أسفل من المكان الذي كنتم فيه، (وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) (الأنفال: 42)، فكانت المعركة الحاسمة والنصر المبين، حيث تساقط فيها صناديد قريش واحدًا بعد الآخر ما بين قتيل وجريح.

وقد شهدت هذه المعركة الحاسمة صورًا من القيادة العسكرية الفذة للنبي -صلى الله عليه وسلم- تظهر قدراته القتالية، وكفاءته العالية في تسيير الحرب، وهو ما سنحاول أن نبيِّن هنا جانبًا منه من خلال أحداث هذه الغزوة، فمنها:

- تقديم دوريات استطلاعية:

بإرسال مَن يترقب ويجمع الأخبار عن عودة قافلة قريش من الشام والتعرف على أحوالها للخروج لاعتراضها، ثم بجمع المعلومات بعد ذلك عن جيش قريش القادم من مكة قبل ملاقاته، وقد تكررت تلك الدوريات الاستخبارية كثيرًا في غزواته -صلى الله عليه وسلم-.

ولا شك أن تجميع مثل هذه المعلومات والأخبار عن قوات العدو وموقعها وأرض المعركة للاستفادة منها أمر مهم في وضع خطة مواجهة العدو، وفي هذا أيضًا تفادٍ لأي مباغتة في الزمان أو المكان، وتجنب أي كمائن من العدو.

- التعبئة الجيدة للقوات:

حيث قام -صلى الله عليه وسلم- بتعبئة قواته في ترتيب محكم، مكوَّن من دورية استطلاعية أمام القوات لجمع المعلومات عن أحوال خط سير الجيش ورصد أي تحركات للعدو.

يلي ذلك القسم الأكبر من القوات المؤلف من كتيبتين: الأولى للمهاجرين ورايتها مع علي بن أبي طالب، والثانية للأنصار، ورايتها مع سعد بن معاذ، والرايتان سوداوان. وجعل على قيادة الميمنة: الزبير بن العوام، وجعل على قيادة الميسرة: المقداد بن عمرو، وكانا هما الفارسين الوحيدين في الجيش، ثم المؤخرة (الساقة) بإمرة قيس بن أبي صعصعة. وللقوات راية عامة بيضاء مع مصعب بن عمير، وهذا التشكيل للقوات يماثل أحدث صور التعبئة الحديثة في حروب الصحراء.

- التعايش مع أحوال قواته:

كان مع المسلمين سبعون من الإبل فقط، فكان كل ثلاثة يتناوبون على بعيرٍ طوال مسافة التحرك، ولم يميز النبي -صلى الله عليه وسلم- نفسه بشيء وهو القائد العام للجيش، ولم يؤثر نفسه عليهم في شيء، إذ أصر على الاشتراك مع اثنين من أصحابه في التعاقب على بعير واحد طوال الرحلة.

- التشاور مع أصحابه:  

نقلت استخبارات قوات المدينة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خبر عير قريش وخبر نفيرها (جيشها)، وتأكد بعد تدبر تلك الأخبار أنه لم يبقَ إلا لقاءٌ دامٍ بين المسلمين الذين خرجوا لطلب القافلة التي نجت وبين جيش مكة بفرسانه وصناديده؛ خاصة وقد وَعَد الله -تعالى- رسولَه عند خروجه بإحدى الطائفتين أنها للمسلمين؛ العير غير ذات الشوكة أو النفير.

ونظرًا لهذا التطور الخطير المفاجئ، عقد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مجلسًا استشاريًّا أوضح فيه الوضع الراهن، وتبادل فيه الرأي مع قادة الجيش وعامتهم، فخاف البعض توابع هذا اللقاء الحربي، وهم غير متأهبين لقتال جيش مكة، وهم مَن قال الله -تعالى- فيهم: (‌كَمَا ‌أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ . يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ) (الأنفال: 5-6)، أما قادة جيش المسلمين فلم يهابوا الموقف.

وكان أكبر ما يشغل بال النبي -صلى الله عليه وسلم- هو رأي الأنصار؛ فهم أولًا أغلبية الجيش، وهم ثانيًا لا يلزمهم قتال قريش خارج نطاق المدينة؛ إذ كانت بيعتهم للنبي -صلى الله عليه وسلم- حال الهجرة إليهم أن يمنعوه مما يمنعون منه أبناءهم ونساءهم في المدينة، ولم يبايعوه على القتال خارج المدينة، فلما طلب رأي أصحابه، قام ثلاثة كلهم من المهاجرين، فقام أبو بكر فقال وأحسن، ثم قام عمر بن الخطاب فقال وأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو فقال: "يا رسول الله، امضِ لما أراك الله، فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ ‌فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) (المائدة: 24)، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه"، فأثنى عليه النبي -صلى الله عليه وسلم-، ودعا له بخير، ثم قال: "أشيروا عليّ أيها الناس"، يريد بذلك الأنصار، ففطن لذلك سعد بن معاذ فقال: "والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟"، فقال: "أجل"، فقال سعد: "فقد آمنا بك فصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامضِ يا رسول الله لما أردت؛ فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدًا؛ إنا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله".

وفي رواية أخرى أن سعدًا قال: "لعلك تخشى أن تكون الأنصار ترى حقًّا عليها أن لا تنصرك إلا في ديارهم، وإني أقول عن الأنصار وأجيب عنهم، فأظعِن حيث شئت، وصل حبل من شئت واقطع حبل من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت، وما أمرت فيه من أمر فأمرنا تبع لأمرك، فوالله لئن سرت حتى تبلغ البرك من غمدان لنسيرن معك، ووالله لئن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك" (انظر في ذلك: "الرحيق المختوم" للشيخ صفي الرحمن المباركفوري - طبعة المكتب الجامعي الحديث - الإسكندرية، ص 200 - 201). فسر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقول سعد، وقال: "سيروا وأبشروا، فإن الله -تعالى- قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم".

ولما استقر المسلمون عند أدنى موقع ماء من بئر بدر، أشار الحباب بن المنذر على النبي -صلى الله عليه وسلم- بالتحرك إلى أقرب موقع ماء من العدو، فينزل عنده ويبني عنده حوضًا للماء، فيملأه، ثم يقوم بتغوير ما عداه من مواقع المياه الأخرى، فيمتلك بذلك المسلمون الماء ويحرم منه عدوهم، وهو ما قام النبي -صلى الله عليه وسلم- بتنفيذه بالفعل.

وبعد نزول المسلمين على الماء، اقترح سعد بن معاذ على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يبني المسلمون مقرًّا لقيادته استعدادًا لأي طوارئ، وتحسبًا للهزيمة قبل النصر، حيث قال: "يا نبي الله، ألا نبني لك عريشًا تكون فيه، ونعد عندك ركائبك ثم نلقى عدونا، فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا من قومنا، فقد تخلف عنك أقوام يا نبي الله ما نحن أشد لك حبا منهم، ولو ظنوا أنك تلقى حربًا ما تخلفوا عنك، يمنعك الله بهم، يناصحونك ويجاهدون معك".

فأثنى عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- ودعا له، وبنى المسلمون عريشًا على تل مرتفع يقع في الشمال الشرقي لميدان القتال ويشرف على ساحة المعركة المنتظرة، وانتخب للعريش مَن يحرسه.

كما استشار النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه -بعد نهاية المعركة- في أمر الأسرى من المشركين، ومال إلى الرأي الذي أبداه أبو بكر الصديق بأخذ الفدية، وإن جاء القرآن بعد ذلك بخلافه، بقوله -تعالى-: (مَا ‌كَانَ ‌لِنَبِيٍّ ‌أَنْ ‌يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) (الأنفال: 67 - 68).

- وضع خطة القتال وإدارته فعليًّا:

استعرض النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه قبل القتال، فرآهم يتزاحمون ويدنو بعضهم من بعض، فقام بترتيبهم وجعلهم صفوفًا، وساوى بين هذه الصفوف، على غير ما عهد العرب واعتادوا في حروبهم، ثم خطب فيهم يحثهم على حسن البلاء في القتال؛ يحرضهم ويشجعهم على الصبر فيه، لتقوية عزائمهم ومعنوياتهم في مواجهة تفوق قريش عليهم في العدد والعدة.

وقد جعل النبي للتعارف بين المسلمين كلمة وشعار يعرف به بعضهم بعضًا في المعركة، هو: (أحد... أحد). وهذا أمر مهم؛ خاصة في ظل وجود تشابه بين المسلمين والمشركين، وهم بالمئات في الشكل والتسليح؛ بخلاف لو كان الطرفان يختلفان عن بعضهما في الشكل والتسليح.

أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه بصد هجمات العدو وهم مرابطون في صفوفهم ومواقعهم، وأن ينضحوا العدو بالنبل أولًا، ولا يحملوا بصفوفهم على العدو حتى يأذن لهم، ومعنى: "فانضحوهم بالنبل"، أي: ادفعوهم بالنبل، وهي السهام، وهو السلاح بعيد المدى وقتها، ومعنى و"استبقوا نبلكم" أي: لا ترموها على العدو وهو بعيد عنكم، بل انتظروا حتى يقترب.

قال لواء محمد جمال الدين محفوظ في كتابه: (العسكرية الإسلامية ونظريات العصر): (تأخير قذف السهام من القسي حتى يقترب الأعداء، وهو معنى: استبقوا نبلكم، ذلك بعينه هو مبدأ (كبت النيران) في اصطلاحات العلم العسكري الحديث، ومؤداه ألا يبدأ المدافعون في الرماية من بنادقهم حتى يقترب العدو المهاجم إلى البعد الذي يمكن معه أن تصيب كل رصاصة رجلا منه فتقتله)، (حتى تكون الإصابات قاتلة لدقة تصويبها، وحتى لا تتاح للعدو فرصة الإفلات أو المناورة بحيلة من الحيل).

وأضاف: (وهكذا أراد الرسول القائد -صلى الله عليه وسلم- بتلك التعليمات السديدة ألا يطيش سهم من سهام المسلمين، كما أراد أن يقوم المسلمون بنبالهم قومة رجل واحد ليلقوا الرعب والهلع في نفوس المهاجمين) (راجع كتاب: "الإسلامية ونظريات العصر" لواء محمد جمال الدين محفوظ - ط. دار المعارف - سلسلة كتابك رقم 19: 4- 6 بتصرفٍ).

وهكذا دخل المسلمون المعركة بأسلوب في القتال جديد غير معهود عند العرب، مقر للقيادة، ومقاتلون في صفوف، يسيطر عليها قائد واحد، ويتحركون بإذنه.

 - كان أسلوب الحرب عند العرب يقوم على (الكر والفر) بدون قيادة منظمة، ولا سيطرة من قيادة، في قتال أشبه بقتال أفراد لا كمجموعة واحدة؛ قال اللواء الركن محمود شيت خطاب: (القتال بأسلوب الكر والفر، وهو أن يهجم المقاتلون بكل قوتهم على العدو: النشابة منهم، والذين يقاتلون بالسيوف ويطعنون بالرماح، مشاة وفرسانا، فإن صمد لهم العدو أو أحسوا بالضعف نكصوا، ثم أعادوا تنظيمهم وكروا، وهكذا يكرون ويفرون حتى يكتب لهم النصر أو الفشل. والقتال بأسلوب الصفوف يكون بترتيب المقاتلين صفين أو ثلاثة أو أكثر على حسب عددهم، وتكون الصفوف الأمامية من المسلحين بالرماح لصد هجمات الفرسان، وتكون الصفوف المتعاقبة الأخرى من المسلحين بالنبال لتسديدها على المهاجمين من الأعداء، وتبقى الصفوف في مواضعها بسيطرة القائد إلى أن يفقد زخم المهاجمين بالكر والفر… عند ذاك تتقدم الصفوف متعاقبة للزحف على العدو. يظهر من ذلك أن أسلوب الصفوف يمتاز على أسلوب الكر والفر بأنه يؤمن الترتيب بالعمق، فتبقى دائمًا بيد القائد قوة احتياطية يعالج بها المواقف التي ليست بالحسبان، كأن يصد هجومًا مقابلًا لعدو أو يضرب كمينًا لم يتوقعه، أو أن يحمي الأجنحة التي يهددها العدو بفرسانه أو بمشاته، ثم يستثمر الفوز بالاحتياط من الصفوف الخلفية عند الحاجة. إن أسلوب الصفوف يؤمن السيطرة على القوة بكاملها، ويؤمن احتياطًا للطوارئ، ويصلح للدفاع والهجوم في وقتٍ واحدٍ؛ أما أسلوب الكر والفر، فيجعل القائد يفقد السيطرة، ولا يؤمن له أي احتياط للطوارئ).

وأضاف: (إن تطبيق الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأسلوب الصفوف في معركة بدر عامل مهم من عوامل انتصاره على المشركين، والتاريخ العسكري يحدثنا أن سرَّ انتصار القادة العظام)، (هو أنهم طبَّقوا أسلوبًا جديدًا في القتال غير معروف، وقاتلوا بأسلحة جديدة غير معروفة) (راجع كتاب: "الرسول القائد" لللواء ركن محمود شيت خطاب - ط. دار القلم ط. الثالثة، ص 104 - 105 بتصرفٍ يسيرٍ).

بدأ المشركون القتال بهجوم الأسود بن عبد الأسد المخزومي على حوض الماء الذي بناه المسلمون لاقتحامه وهدمه؛ فتصدى له حمزة بن عبد المطلب، وتغلَّب عليه حتى قتله.

ثم برز ثلاثة من المشركين أمام الجيش طالبين المبارزة، فعيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- ثلاثة من المهاجرين لمبارزتهم ممَّن يعلم شجاعتهم وشدتهم في القتال، فقتل المسلمون الثلاثة المشركين الثلاثة لكن جرح واحد من المسلمين الثلاثة.

استشاط المشركون غضبًا لهذه البداية، فأمطروا المسلمين بالسهام وكر فرسانهم على صفوف المسلمين، ولم يفطنوا بعد لأسلوب المسلمين الجديد في القتال؛ إلا أن صفوف المسلمين ظلت صامدة تضرب بالنبال رجالات المشركين، فتهاوى بعض فرسانهم بنبال المسلمين. فلما اشتد الأمر نزل النبي -صلى الله عليه وسلم- يقود المعركة بنفسه، ويتقدَّم صفوف المسلمين التي أخذت تقترب رويدًا رويدًا من المشركين الذين تبعثرت قواتهم، فأصدر النبي -صلى الله عليه وسلم- أمره وهو يثب في درعه بالهجوم المضاد، وأن يشدوا على فلول المشركين.

قال الأستاذ محمد فرج في كتابه: (بدر والفتح: قمة المعارك العسكرية)، عن أحداث غزوة بدر بعد ذكر بناء العريش كمركز قيادة للمسلمين: (ولكن الرسول -عليه الصلاة والسلام- لم يستخدمه؛ لأنه -وهو أسوة حسنة للمسلمين- أراد أن يشارك في المعركة، وأن يسهم فيها، وأن يديرها عن قُرب؛ إيمانًا منه بأن القيادة يجب أن تعيش المعركة بكلِّ فكرها ووجدانها، وألا تكون بمعزلٍ عن أحداثها؛ ولهذا عاش الرسول المعركة مع قومه وأصحابه، ينظِّم الصفوف، ويرتب الجند، ويدير المعركة، ويصدر الأوامر والتعليمات، ويشجع أصحابه ويحرِّضهم على الصبر والصمود).

وأضاف الكاتب: (وكان المسلمون ينفذون أوامر قائدهم، بحرص شديد وأمانة رائعة، وطيب خاطر، واستجابة عن إيمان وثقة. ورأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المشركين يقتربون من المسلمين؛ فأصدر أوامره إلى رجاله: "إن اكتنفتم القوم فانضحوهم بالنبال، ولا تسلوا السيوف حتى يغشوكم"، وعندما اشتد القتال أمر رسول الله بالقيام بهجوم عام، وصدرت تعليماته إلى رجاله: "شدوا"؛ فاندفع المسلمون في حماس جعل من قلتهم كثرة، ومن ضعفهم قوة، وأخذوا في قوة خارقة يجزون الرؤوس، ويقطعون الرقاب غير مبالين بعنف القتال وشدته) (راجع: "بدر والفتح: قمة المعارك العسكرية" محمد فرج ط. دار المعارف - سلسلة كتابك رقم 47، ص 32، 37 - 39 بتصرفٍ).

وهكذا تجلَّت شجاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- في معركة بدر، كما في غيرها من المعارك التي خاضها بعده؛ قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- في وصف شجاعة النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنا كنا إذا اشتد الخطب، واحمرت الحدق، اتقينا برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه، ولقد رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله وهو أقربنا إلى العدو". ولعل في موقفه (يوم غزوة حنين) وثباته يقاتل العدو مع قلة قليلة من أصحابه بعد فرار جموع جيش المسلمين حتى تحقق له النصر؛ لأصدق دليل على ذلك.

بدأت معركة بدر صباح يوم الجمعة 17 رمضان، وانتهت قرب المساء، وقد قُتِل من صناديد قريش (سبعون)، منهم: أبو جهل، والوليد بن عتبة، وشيبة وعتبة ابنا ربيعة، وأسر منهم أيضًا (سبعون)، وقام المسلمون بجمع الأسلاب والغنائم من أرض المعركة، بينما فَرَّ الباقون من المشركين عائدين إلى مكة مدحورين، يجرون أذيال الهزيمة. وقد استشهد من المسلمين في المعركة أربعة عشر مسلمًا: ستة من المهاجرين، وثمانية من الأنصار.

وبعد أن أقام النبي -صلى الله عليه وسلم- ببدر ثلاثة أيام تحرَّك بجيشه عائدًا إلى المدينة، فلما بلغ الروحاء؛ لقيه رؤوس المسلمين الذين خرجوا لاستقباله وتهنئته بالنصر، ودخل النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة منصورًا يهابه أعداؤه، وأسلم بشرٌ كثيرٌ مِن أهل المدينة، وإن كان منهم منافقون؛ كان في مقدمتهم: عبد الله بن أُبَي ابن سلول.