عاجل
  • الرئيسية
  • المقالات
  • الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (111) دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه وقومه إلى التوحيد وبراءته من الشرك (15)

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (111) دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه وقومه إلى التوحيد وبراءته من الشرك (15)

  • 51

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقال الله -تعالى-: (‌وَإِذْ ‌قَالَ ‌إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ . فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ . فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ . وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ . وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام: 74-83).

قوله -تعالى-: (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ):

الفائدة الرابعة:

الآية الكريمة تبيِّن بجلاء حقيقة دين إبراهيم -صلى الله عليه وآله وسلم-، وهو: البراءة من الشرك وأهله، وتوجيه الوجه والقصد والإرادة لله رب العالمين لا شريك له، فالحنيفية التي صَرَّح بها إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- تقتضي الميل إلى الله والإعراض عمَّن سواه مما يُعبَد من دونه، وهذه البراءة وهذا الإعراض عما يعبد من دون الله يهدم فكرة مساواة الملل؛ سواء كانت الملل المنسوبة إلى الأنبياء، أو تلك الأرضية التي اخترعها الناس دون انتساب إلى الرسول.

ومن ذلك: الدعوة إلى الدين الإبراهيمي الجديد، وما يحوم حولها، مثل: فكرة الأخوة الإنسانية التي تقوم عليها الماسونية وما شابهها من الدعوات، ونظرية الدِّين الموحد united religion التي يروج لها "بابا الفاتيكان الحالي"، ويحاولون جر المسلمين إليها.

ولا يشك مسلم في بطلان هذه الدعاوى، بل في مناقضتها لأصل دين الإسلام، بحيث يكون مَن قَبِلها هادمًا لشهادة: "أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله"؛ مما يقدح في دينه ويصرِّح بردته عن دين الإسلام.

قال ابن حزم -رحمه الله-: "واتفقوا على تسمية اليهود والنصارى كفارًا" (مراتب الإجماع).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "اليهود والنصارى كفار كفرًا معلومًا بالاضطرار من دين الإسلام".

وقال أيضًا -رحمه الله-: "وقد ثبت في الكتاب والسنة والإجماع: أن مَن بلغته رسالته فلم يؤمن به فهو كافر؛ لا يقبل منه الاعتذار بالاجتهاد؛ لظهور أدلة الرسالة وأعلام النبوة".

وقال الحجاوي -رحمه الله- في الإقناع ضمن ما يوجب الردة: "أو لم يكفِّر مَن دان بغير الإسلام: كالنصارى، أو شك في كفرهم، أو صَحَّح مذهبهم، أو قال قولًا يُتوصَّل به إلى تضليل الأمة أو تكفير الصحابة؛ فهو كافر.

وقال الشيخ -يعني ابن تيمية رحمه الله-: مَن اعتقد أن الكنائس بيوت الله وأن الله يعبد فيها، وأن ما يفعله اليهود والنصارى عبادة لله وطاعة له ولرسوله -صلى الله عليه وسلم-، وأنه يحب ذلك أو يرضاه أو أعانهم على فتحها وإقامة دينهم، وأن ذلك قربة أو طاعة؛ فهو كافر.

وقال في موضع آخر: مَن اعتقد أن زيارة أهل الذمة كنائسهم قربة إلى الله؛ فهو مرتد، وإن جهل أن ذلك محرم وعرف ذلك؛ فإن أصر صار مرتدًا" (انتهى).

ففكرة الدين الإبراهيمي لا بد من مقاومتها والحذر منها، وتحذير المسلمين من قبولها، خصوصًا مع ما تتضمنه من هدم القومية والوطنية -والتي قد نختلف معها في ترتيب أولويات الولاء؛ إلا أن عامتها قد استقر الأمر فيها على الالتزام بالشريعة الإسلامية كأصل وإن تأخر التطبيق-، ولا شك أن هدمها لإقامة ما يسمونه: "بالولايات المتحدة الإبراهيمية" هو هدم وتضييع للهوية العربية والإسلامية لهذه الدول وشعوبها؛ فلا يجوز إلا محاربة هذه الفكرة وتوابعها، مثلما سموه: "بيت العائلة الإبراهيمي"؛ الذي أرادوا حسب ما أعلنوا قبول عبادات الآخرين، واعتبار المسجد والكنيس والكنيسة كلها بيوت الله، وقد نقلنا -قبل هذه الفقرة- كلام شيخ الإسلام ابن تيمية فيمَن اعتقد عن دور عبادتهم أنها بيوت الله.

المسألة الخامسة:

البراءة مِن الشرك تستلزم البراءة من المشركين، وليس كما يحاول بعض الناس في زماننا أن يزعم حبه للكفار، ولكنه يبغض كفرهم، محاولين التودد لأشخاصهم في ذلك! وقد بيَّن -سبحانه وتعالى- وجوب بغضهم والبراءة منهم لأشخاصهم طالما ظلوا على كفرهم، قال -عز وجل-: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ) (الممتحنة: 4).

وقال -سبحانه وتعالى-: (‌لَا ‌تَجِدُ ‌قَوْمًا ‌يُؤْمِنُونَ ‌بِاللَّهِ ‌وَالْيَوْمِ ‌الْآخِرِ ‌يُوَادُّونَ ‌مَنْ ‌حَادَّ ‌اللَّهَ ‌وَرَسُولَهُ ‌وَلَوْ ‌كَانُوا ‌آبَاءَهُمْ ‌أَوْ ‌أَبْنَاءَهُمْ ‌أَوْ ‌إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (المجادلة: 22).

وقد اختلط على هؤلاء -أو تعاموا عنه عمدًا- الفرق بين النصح وحب الخير للناس، وحب هدايتهم، وبين حبهم مع بقائهم على كفرهم؛ فهذا الفرق لا بد منه، فإن النصح الواجب للناس وحب هدايتهم لا يعني حبهم على كفرهم!

فنحن نحب الخير للناس؛ لأن الله يحب فعل الخير من جميع الناس، وإن كنا نعلم أنه قَدَّر خلاف ذلك، من وجود الكفر والكافرين؛ قدَّر ذلك لمصالح عظيمة لا تتحقق إلا بوجود الكفر والكافرين؛ فلا بد من الالتزام بالحقيقة الشرعية، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ ‌أَوْثَقَ ‌عُرَى ‌الْإِيمَانِ: ‌الْحُبُّ ‌فِي ‌اللَّهِ، ‌وَالْبُغْضُ ‌فِي ‌اللَّهِ) (رواه الطبراني، وصححه الألباني).

وأما الحقيقة الكونية فنرضى عن الله -عز وجل- ربًّا مدبِّرًا، ولا نرضى عما لا يرضاه -عز وجل- من الملل والأفراد والمجتمعات الكافرة التي يبغضها -سبحانه-؛ فهو الذي خلقهم، ولكنه يبغضهم، لِمَا قام بهم من وصف الكفر.

وأما إذا تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة؛ فإخواننا في الدين، وأما قبل ذلك فهم ليسوا إخوانًا لنا ولا أصدقاء ولا أولياء، وهذه المسألة العظيمة التي لا بد من تحقيقها في واقع الحياة حتى تظل عقيدة التوحيد واضحة ناصعة، ولا يلتبس الأمر على الناس، خصوصًا من صحح ملتهم؛ فكيف يدعوهم إلى الإسلام ويقول لهم: إن الإسلام هو الحق فادخلوا في الإسلام، وهو يقول بقاؤكم على ملتكم ينفعكم عند الله يوم القيامة، وفي الدنيا أنتم إخوان لنا على تلك الحال؟!

وأما الأخوة الإنسانية فهي أخوة في النسب، لا تقتضي حبًّا ولا موالاة ولا صداقة حتى يؤمنوا بالله وحده، ولا بد من توضيح هذه المسألة للمسلمين في وسط جو فظيع من التلبيس وإفساد العقائد الذي يمهد للناس قبول هذه الفكرة الخبيثة، مساواة الملل والدين الإبراهيمي الجديد.

نسأل الله أن يعيذ المسلمين من شر ذلك كله.