فاستقم كما أمرت

  • 76

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد أمر الله -تعالى- نبيه -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين، فقال: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (هود: 112)، وقال -عز وجل-: (فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ) (فصلت: 6)، فأُمرنا بالاستقامة، وهي: "سلوك المنهج القويم والصراط المستقيم، وهو الدِّين القويم، مِن غير تعويج عنه يمنة ولا يَسْرة، ويشمل ذلك: فعل الطاعات كلها، الظاهرة والباطنة، وترك المنهيات كلها كذلك".

وقال ابن حجر -رحمه الله-: "الاستقامة: كناية عن التمسك بأمر الله -تعالى- فعلًا وتركًا"، وعرَّف بعضهم الاستقامة بقوله: أن يجمع بين أداء الطاعة، واجتناب المعاصي. وقيل: الاستقامة ضد الاعوجاج، وهي مرور العبد في طريق العبودية بإرشاد الشرع والعقل.

وقال ابن القيم -رحمه الله-: "فالاستقامة كلمة جامعة، آخذة بمجامع الدين، وهي القيام بين يدي الله على حقيقة الصدق، والوفاء بالعهد، والاستقامة تتعلق بالأقوال، والأفعال، والأحوال، والنيات، فالاستقامة فيها: وقوعها لله، وبالله، وعلى أمر الله.

قال بعض العارفين: كن صاحب الاستقامة، لا طالب الكرامة، فإن نفسك متحركة في طلب الكرامة، وربك يطالبك بالاستقامة، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله -تعالى- روحه - يقول: أعظم الكرامة لزوم الاستقامة".

فدوام الطاعة والاجتهاد فيها، ولزوم الاتباع، والحذر من المعصية واجتنابها، والورع عن الشبهات: منهج حياة المسلم، وهو طريقه في الحياة، يستقيم عليه ويستديم فيه، وقد يعرض له فتور أو كبوات، ولكنه سرعان ما يتدارك ذلك بعودة وتوبة وأوبة إلى الله -تعالى-، قال -سبحانه- في وصف عباده المتقين: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (آل عمران: 135).

ومواسم الطاعات -كرمضان والعشر الأُول من ذي الحجة، وغيرهما- فرصة للازدياد من الطاعة، والمسارعة إلى الله -تعالى-، وبذل الجهد والطاقة فيما يرضي الله -تعالى-، وإصلاح عيوب النفس، وتطهيرها من أوزارها وأمراضها، فيأخذ منها زادًا في طريق اجتهاده في رضى الله -تعالى-.

ويحذرنا الله -تعالى- من داء خطير قد يصيب البعض، وهو طول الفتور بعد الطاعة، والتحول بعد الاجتهاد إلى المعاصي أو التقصير، فقال -تعالى-: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا) (النحل: 92).

قال الشيخ السعدي -رحمه الله-: "(وَلا تَكُونُوا) في نقضكم للعهود بأسوأ الأمثال وأقبحها وأدلها على سفه متعاطيها، وذلك (كَالَّتِي) تغزل غزلًا قويًّا فإذا استحكم وتَمّ ما أريد منه، نقضته فجعلته (أَنْكَاثًا)، فتعبت على الغزل ثم على النقض، ولم تستفد سوى الخيبة والعناء وسفاهة العقل ونقص الرأي، فكذلك من نقض ما عاهد عليه فهو ظالم جاهل سفيه ناقص الدين والمروءة".

وقال ابن عاشور -رحمه الله-: "ووجه الشَّبَه: الرجوع إلى فساد بعد التلبس بصلاح"؛ ولذلك كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يستعيذ من الحور بعد الكور (رواه مسلم)، وهو الرجوع من الطاعة إلى المعصية، والنقصان بعد الزيادة، وفساد الأمور بعد صلاحها. 

فليحذر المؤمن من التكاسل والتهاون والفتور -فضلًا عن المعصية- بعد رمضان؛ فقد أخذ زادًا فلا يُضيِّعه، وازداد طاعة فلا يفرِّط فيها، وازداد إيمانًا فلا ينقصه، وازداد اجتهادًا فلا يزول منه، وإنما حاله كحال موسى -عليه السلام- حين قال: (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى) (طه: 84)، فليكن رمضان دافعًا لمزيد من الطاعة والعبادة، وإصلاح النفس وتهذيبها، وتطهيرها من عيوبها وأمراضها.

وقد وعد الله أهل الاستقامة بوعود، منها: (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا) (الجن: 16)، وقال -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) (فصلت: 30)، وقال -سبحانه-: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) (الأعراف: 96)، وقال لبني إسرائيل -وهو وعد لكلِّ مَن التزم منهج الله-: (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) (المائدة: 66).

وصلِّ اللهم وسلِّم وبارك على عبدك ونبيك محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم.