• الرئيسية
  • المقالات
  • الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (116) دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه وقومه إلى التوحيد وبراءته من الشرك (20)

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (116) دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه وقومه إلى التوحيد وبراءته من الشرك (20)

  • 63

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقال الله -تعالى-: (‌وَإِذْ ‌قَالَ ‌إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ . فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ . فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ . وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ . وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام: 74-83).

قوله -تعالى-: (وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ) فيه فوائد:

الفائدة الثالثة:

قوله -عليه الصلاة والسلام-: (وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا)، فيه دليل على حرمة الخوف من غير الله، فإن كان ما يُخَوَّف به العبدُ من الطواغيت والآلهة التي يعبدها المشركون، وهي في ظاهر حسِّ الإنسان وعقلِه مع أدلة الشرع لا تملك شيئًا، ولا تصنع شيئًا، فمَن يخافها يخافها بخوف سري وطاعة باطنة، ويتقرَّب بالخوف منها إليها؛ فهو خوف شركي ينافي أصل الإيمان.

قال -تعالى-: (‌فَلَا ‌تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران: 175)، فدل على من خاف هذه الآلهة لم يكن مؤمناً وقال -تعالى-: (أَلَيْسَ اللَّهُ ‌بِكَافٍ ‌عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) (الزمر: 36)، فلا أضل مِن خوف عبدٍ مِن طواغيت وآلهة وأصنام، لا تملك له شيئًا؛ قد أضله الله -عز وجل- فاعتقد خوفهم!

وهذا يدخل فيه: الخوف من القبر وصاحبه؛ أن يصيبه بأذى أو ضر، إذا لم يذهب لزيارته وتعظيمه، والطواف حوله، والذل بين يديه، ودعائه، وطلب قضاء الحاجة منه!

وللأسف: هذا ينتشر بين كثيرٍ مِن عُبَّاد القبور المنتسِبين للإسلام؛ بجهلهم، واتباعهم لأحبارهم ورهبانهم وعلماء السوء الذين صوَّروا لهم أن هؤلاء المقبورين هم الذين يدبِّرون الكون، ويملكون الضر والنفع، والشفاء والمرض، والفقر والغنى، والهزيمة والنصر، والإهلاك والحفظ، وكل ذلك مِن شرك الربوبية الذي أدَّى إلى شرك الألوهية بحصول الخوف من دون الله، دون أسبابٍ ظاهرهٍ، وعادة غالبة، وهم يخوِّفون مَن يخالفهم بأن أصحاب القبور سوف يؤذونهم؛ لأنهم ينهون عن سؤالهم وعبادتهم، وكذلك مَن يخوِّفون الناس من الجن، ويدفعونهم إلى طاعتهم المزعومة بالتقرُّب إليهم بالذبح والنذر، والتذلل والتضرع، وتسميتهم أسيادًا، ودعائهم، وطلب دفع الضر ورفعه عنهم، ومقاتلة أعدائهم من الجن أو غيرهم!

وقد يستجيبون لهم في مطالب كفرية، يطلبها أولياء الشيطان وعُبَّاد الطواغيت من السحرة والكهنة، كأن يكتبوا القرآن بالنجاسة: كالبول والمني؛ مما يسمونه: السحر السفلي، وكالسجود للجن، وكرفع الصليب على رأسه وصدره؛ ليحققوا له ما يريد مِن الأمن وقضاء الحاجات!

ووالله، إن هذا الذي يفعله السحرة والكهنة والدجالون، وما يفعله الناس عندهم؛ لهو من جنس ما يفعله عباد الأوثان الذين حكى الله لنا حالهم بقوله: (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا) (الجن: 6)، وقد كان أحدهم إذا نزل منزلًا يقول: "أعوذ بعظيم هذا الوادي من سفهائه"؛ فإن لم يفعل أخذوا متاعه، وربما ألقوه هو شخصيًّا بعيدًا، فزادهم ذلك التعظيم من الإنس إرعابًا للإنس وتلاعبًا بهم، وإرهاقًا لهم، بل والله إن ما يحدث عند السحرة والدجالين في زماننا؛ لهو شر من ذلك؛ فإنهم يطلبون منهم ما هو عبادة صريحة، ويطلبون منهم ما هو كفر صريح -والعياذ بالله-، وقد أبدلنا الله -عز وجل- الذِّكر الحسن العظيم من هذه التُّرهات، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ ‌نَزَلَ ‌مَنْزِلًا، ثُمَّ قَالَ: أَعُوذُ ‌بِكَلِمَاتِ ‌اللهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ) (رواه مسلم).

وهذا لأن اللجوء والاستعاذة إنما تكون إلى الله -عز وجل- وبالله، وبأسمائه وصفاته، وكلماته التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، وكثيرٌ من الناس -للأسف- يعلِّم أولاده الخوف من العفاريت وأنواع الجان، فينشأ الأولاد على هذا الخوف الوهمي الخطير الذي إذا اقترن بالطاعة الباطنة والتعظيم الباطن والتقرُّب إليهم، كان شركًا أكبر -والعياذ بالله- إذا فعلوه بعد البلوغ.

وأما الخوف بسبب الأمور الظاهرة: كحرب عُبَّاد الأوثان والطواغيت، ومكرهم وكيدهم؛ فإن هذا الخوف إذا انعقدت أسبابه وظهرت، كان خوفًا طبيعيًّا لا عباديًّا، ككلِّ خوفٍ مِن الأعداء، وما يؤذي من الحيوانات المفترسة، والدواب والهوام السامة، وغيرها، وهذا لا يكون شركًا، بل وقد لا يكون محرمًا، بل قد وَقَع من الأنبياء شيء منه، لكنه لا يستقر في القلب بقوة التوكل على الله، واللجوء إليه -سبحانه-، قال -تعالى- عن موسى وهارون: (قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى . قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) (طه: 45-46)، فعلَّمهما الله -عز وجل- إذهاب ذلك الخوف باستحضار معية الله -عز وجل-، وأنه -سبحانه- الذي يسمع كلامهما وكلام أعدائهما، ويرى أعمالهما وأعمال أعدائهما، ويعلم أنهما إنما قاما لنصرة دينه، وأن أعداءه يحاربون دينه، وكما قال -سبحانه وتعالى-: (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى . قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَى . وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى) (طه: 67-69)، وقال -سبحانه وتعالى- عن موسى -عليه الصلاة والسلام-: (فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (الشعراء: 21).

وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا خاف قومًا قال: (اللَّهُمَّ ‌إِنَّا ‌نَجْعَلُكَ ‌فِي ‌نُحُورِهِمْ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شُرُورِهِمْ) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني).

فدلَّ على أنه قد يقع في القلب ابتداءً مع كمال الإيمان، وقد أرشد الشرع إلى التوكل على الله؛ لدفع ضرر مَن يُخْشَى ضرره، وحَذَّر مِن استقراره في القلب ونهى عنه؛ حتى لا يترك الإنسانُ اتباعَ رضوانِ الله، قال الله -تعالى-: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ . فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ . إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) (آل عمران: 173-175).

فإذا نقص توكل العبد حتى استقر الخوف في قلبه من أعدائه؛ كان جبنًا مذمومًا، ثم لو أدَّى إلى ترك واجبٍ: كترك الجهاد بالفرار من الزحف، أو فعل محرم دون إكراهٍ معتبر شرعًا؛ كان خوفًا محرمًا، فإن كانت هذه المعصية كفرًا ولم يكن هناك إكراه معتبر؛ كان خوفًا كفريًّا، وفعله الكفر كفرًا، كمَن يتصور أن أعداءه من الظالمين يريدون منه تركَ الإسلام وسبَّ الدِّين ليتركوه دون أذى، فيعلن كفره ويسب الدِّين، ويقرِّب الذباب لأوثانهم ولو لم يعرضوه على إكراه! لحقارة النفس، وانهيار الإيمان في القلب، وانعدام التوكل على الله -والعياذ بالله من ذلك-.

اللهم إننا نجعلك في نحور الظالمين، ونعوذ بك من شرورهم. والله المستعان.

وللحديث بقية -إن شاء الله-.