فن الممكن.. وتجربة الجزائر

  • 133
محفوظ نحناح

إن مبدأ تحقيق المصلحة العامة، يمثل قاسما مشتركا بين غالبية الغايات المعلنة، لجل الفلسفات، والأفكار، والجماعات، والتنظيمات السياسية على مر العصور، ونعتقد أن هذا المبدأ مازال صالحا ومناسبا؛ ليكون الغاية المثلى للسياسة.

والأساليب الممكنة والمشروعة، التي يمكن أن تنتهج؛ لتحقيق الغايات السياسية المتماشية مع هذا المبدأ كثيرة ومتنوعة، وتتحول السياسة إلى فن الممكن، عندما تقوم على المفاضلة بين هذه الوسائل المشروعة؛ لاختيار أحسنها، وأفضلها؛ لتحقيق الغايات. وفن الممكن، يعني تحديد الغايات، ورسم الأهداف الواقعية الممكنة التحقيق، والقابلة التجسيد، أي الأهداف التي تراعي ظروف الخلق، وتحولات العصر، وضرورات الواقع، وحدود الوسائل والطاقات، لا الأهداف الموغلة في عوالم الأحلام والأوهام.

لقد أدى تصادم الإرادات، والخيارات، في بلادنا إلى حالة من الانهيار السياسي التام، ميزها انفجار الوضع الأمني، وانسداد سبل العمل السياسي الطبيعي، وهيمنة الفوضى والاضطراب على كثير من القطاعات.

ووسط الجو المشحون بالخوف والتوجس في ساحة تحيق بها أخطار الانزلاقات والانحرافات القاتلة، ظهرت ملامح توجهات مريبة، كانت تستهدف :

- تفجير حرب أهلية تأتي على الأخضر واليابس، يغذيها شعور بالظلم، وتدعمها روح الجهاد الغالبة على بعض الفاعليات الإسلامية والدينية.

- المراهنة على تدافع المؤسسات الاستراتيجية وتنافرها؛ لتحقيق إلغاء صلاحيات مؤسسات الدولة، والوصول إلى تفتيت الوحدة الوطنية.

- وضع البلاد وطنا وشعبا تحت رحمة التدخل الأجنبي وهيمنته.

- إخضاع البلاد للانشغال بذاتها، وتفريغ قوتها الضاربة في مشاكلها الداخلية.
وكان المطروح سبلا متعددة:

- سبيل المعارضة السلمية وفق القوانين المعمول بها، أو المعارضة الراديكالية، والضعط والرفض.

- سبيل المقاطعة وعدم إقرار أي وسيلة ينتهجها النظام الحاكم؛ حتى يزول إن زال.

- سبيل المشاركة المصحوبة بمبدأ أن نقول للمحسن أحسنت عندما يحسن، وللمسيء أسأت عندما يسيء .
وما من شك أن أي سبيل لابد وأن تصحبه ضريبة، ويبقى العقل السليم هو الذي يستطيع أن يميز بين المصالح والمفاسد، ويوازن بين أحسن المصلحتين وأشد المفسدتين. وقد أثبتت التجربة أن المعارضة والمقاطعة بهذا الشكل، قد تراجع عنها أصحابها والدعاة إليها، ودخلوا الصف بعد ويلات وويلات.

ولقد كان خطاب وتصرفات أنصار منهج المغالبة؛ سببا رئيسيا في انتشار التيار والخيار الاستئصالي، بين أوساط السلطة والمعارضة على السواء، ومنحه الفرصة والمبرر للذهاب بعيدا في :

- توجيه النقد اللاذع للإسلام ومنهجه، وربط الإسلام بالإرهاب، باعتماد الإعلام القادر على التهويل والتضخيم.

- ملاحقة المتدينين بدعوى ملاحقة الإرهابيين، والضغط المستمر على صور التدين.

- الدفع نحو تقبل العودة إلى منهج الحزب الواحد، أو إلى حزب علماني أيا كان.

- توجيه الاتهام إلى المنظومة التربوية، على أنها معقل الإرهاب.

- ضبط بوصلة الدول الغربية، والعربية، والأفريقية، في اتجاه مقاومة كل ما له علاقة بالدين الإسلامي.
ومثلما رفضنا منهج المغالبة، رفضنا كذلك منهج الاستقالة، وغرس الروح الانسحابية، والفرار من المسؤولية الشرعية، والأخلاقية، والتاريخية، الذي تبناه تيار آخر، تحت دعوى التعفف عن السياسة والترفع عنها، والتنزه عن فتنها ومفاتنها، بما يجعل اللائكية والعلمانية تنتصر، وتستولي على كثير من نقاط التأثير والتوجيه.

وقد كان اختيارنا مبنيا على قناعات أربع :

- العمل على تغيير المنكر بالمعروف، ودفع الضرر بالحسنى، واجب شرعي، ومسؤولية أخلاقية، لا يجوز التخلي عن أدائها، أو التهرب من تحملها، مهما كانت الظروف.

- سياسة الغياب، تحقق غرض القوى اللائكية التغريبية، والتيار الاستئصالي، وتصب في خانتها، عندما تجد الساحة خالية، تصول وتجول كما تريد، دون رقيب، أو حسيب، أو اعتراض، من هذا المنطلق، فإن الواجب يحتم الحضور الإيجابي، والفعال في المواقع المتاحة؛ للتمكن على الأقل من رد بعض المفاسد، ودفع بعض المخاطر المحيطة بالوطن، ورموزه، وثوابته، وأبنائه، ومكاسبه.

- سياسة الغياب الطوعي – والمتاح قائم – يلغي قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما يلغي قاعدة أن المؤمن الذي يخالط الناس، ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط ولا يصبر على أذاهم.

- العمل الوطني الصرف، يجب أن يكون في الظرف المناسب، إذ أن الوطن الذي يتعرض للويلات، إذا لم يتحرك المخلصون فيه لأداء واجبهم، فإنه سيفوتهم فضل السبق والكفاح من أجل رفعته، وإنقاذه من الخطوب التي تحيق به.

بعد تعرضنا إلى أسباب، ومسوغات نهج المشاركة، ودوافعه الفكرية، والخلفيات السياسية والعلمية المحيطة به، نجد أنفسنا أمام سؤال كبير وهام: ما الذي تمكنا من تحقيقه بسياسة المشاركة؟

والإجابة على هذا السؤال تتفرع إلى شقين، يتعلق كل شق منهما بصنف معين من النتائج:

الصنف الأول : النتائج التي تصب في خانة الصالح العام، وهي نتائج كثيرة ومتشعبة، سنكتفي بذكر أهمها:


1- المساهمة في الحفاظ على الدولة، ومنع بنيانها من الانهيار والتفتت والسقوط، ونقصد هنا الدولة، لا السلطة، ولا الحكومة، ولا النظام القائم، نعني الوحدة الترابية والمؤسسات السيادية، والمعالم التي تعرضت بالفعل لخطر التردي والانهيار، عندما عم العنف والقتل والفوضى، فالموازنة تقتضي رجحان كفة مصلحة بقاء الدولة، حتى وإن كان ثمة مستفيدون ونفعيون، واستمرار المؤسسات، ولو كانت هشة أولى من زوالها؛ لأن زوالها من زوال الجميع.


2- الحفاظ على صورة الإسلام، من خلال تقديمه في صورة مخالفة للصور المشوهة الدموية المرعبة، التي رسمتها له خناجر الإرهاب، وكتابات الصحافة المتغربة في الداخل، ووسائل الإعلام الغربية الجاهلة، أو الحاقدة، أو المتآمرة. والحفاظ على المشروع في إطار تيار وتنظيم شرعي، يعمل في أرض الواقع، رغم كل الجهود التي تبذل بهدف الإلغاء الفكري المستحيل، أو الإقصاء القانوني الممكن. والحفاظ على صورة الإسلام من خلال كبح الشباب المندفع عن حسن نية، وعن حماسة فياضة وراء شعارات محببة إلى النفس في كل زمان، خصوصا إذا وجدت من يتقن تحريكها في ظروف الغضب الشعبي العارم، والاحتقان الجماهيري من شدة الظلم والتعسف، مما يفرض وجود من يدفع هذا الاندفاع، ويضبط لهيب العواطف بنظرات العقول، التي لا تسمح بإصدار فتاوى استحلال الدماء والأعراض والأموال.


3- العمل على توضيح الأزمة القائمة في الوطن، أمام الجهات الخارجية، وبالدرجة الأولى أمام الحركات الإسلامية، التي حصل لديها تشويش، بسبب المعتقد الإسلامي السليم من جهة، والواقع الدموي من جهة أخرى، وكذلك أمام الدوائر الرسمية الدولية، التي قد ترى أن من واجبها التدخل؛ لإعادة الأمور إلى نصابها، أو على الأقل لحماية مصالحها، وكانت السوابق جاهزة، ومتوفرة من أحداث لبنان، وأفغانستان، والصومال وغيرها.


4- المساهمة في طمأنة الكثير من القوى والأطراف الداخلية والخارجية، تجاه تيار الحركة الإسلامية، ونشر الطمأنينة التي ساعدت في نزع فتيل الحرب الأهلية الشاملة، التي كانت قاب قوسين أو أدنى، بسبب التشنجات السياسية والاجتماعية، التي طبعت الحياة الوطنية خلال تلك الفترة.


5- قطع الطريق على القوى الظلامية الخفاشية، الممثلة للتيار التغريبي الحاملة للطرح الاستئصالي، التي حاولت أن تستغل ظروف المأساة الوطنية؛ لمحو شخصية الأمة، وتمييع مقومات الهوية الوطنية.


الصنف الثاني: النتائج الحزبية والشخصية، التي حققها لنا مبدأ المشاركة، ونكتفي منها بما يلي:


1- حصول العشرات من أبنائنا وقياداتنا، على شرف الشهادة من أجل أن يعود للوطن أمنه وطمأنينته وعافيته.


2- الانتصار في معارك رهيبة، لكنها صامتة مع بعض الأطراف في السلطة الداعمة للتغريب والاستئصال، والتي كانت ترى مجرد المشاركة منا في بناء الوطن ومؤسسات الدولة، خطرا يتهدد مصالحها وسياستها.


3- اكتساب قاعدة شعبية معتبرة، جعلت منا القوة التي لا يمكن لأحد أن يتجاهلها، وفرضت على الجميع أن يحسب حسابها. وكان من السهل اكتساب القاعدة بسرعة أكثر وحجم أكبر لو تمت مسايرة العواطف والأهواء، ودخول لعبة المتاجرة بالآلام والمآسي، لكسب قواعد وأصوات نحن أعلم بها وأقرب إليها، وأكثر قدرة على استيعابها وتأطيرها، لكن الهدف الحقيقي ليس هو كسب الدعم والتأييد من خلال المتاجرة بالقيم والاستقرار والدماء، وإنما في نشر ما يدعم نسيج الوحدة، ويزرع بذور التآلف والمحبة.


4- اكتساب تجربة وخبرة ميدانية، بما يعد مفخرة في زمن الفتنة العميقة وطنيا ودوليا، تصلح للتأمل والتعديل والتقديم بالأدلة القاطعة للأنظمة الحاكمة في العالم العربي الإسلامي.


5- قدمنا الدليل على أن الحركات الإسلامية ليست غولا، أو وحشا هائجا، ينبغي الاحتراس منه والتخوف، لكنها حركات شعبية واعية، همها الأول والأخير، خدمة أوطانها وشعوبها وأمتها.


وربما كان من الملائم في الأخير، أن نقول إن المكاسب المادية والغنائم – التي يحلو للكثيرين أن ينسبوا لنا السعي إلى تحصيلها – كان بالإمكان تحصيلها لو تقرر الانسلاخ عن الأفكار والمبادئ، وركوب موجة المساندة العمياء، واختيار الحلول السهلة مع السلطة أو المعارضة، أو المشي مع من مشوا في ركب قافلة المتاجرين بالأزمة والمأساة، مما يؤدي في النهاية إلى ديمومة الأزمة للاستفادة من انعكاساتها، وتهيئة الوطن للانشطار ولو بعد حين، واستبعاد كل ما له علاقة بالثوابت الوطنية وتشويهها .


كل هذا وغيره، فرض علينا انتهاج اسلوب {وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا }.
............................................................................................................................
مقتطفات مختصرة من كتاب " الجزائر المنشودة – المعادلة المفقودة ". الفصل الثاني " السياسة بين المقاصد والضوابط "، تحت عنوان " فن الممكن ".

للشيخ " محفوظ نحناح " زعيم الإخوان المسلمين بالجزائر، وقائد حركة السلم الاجتماعي – حماس. (كتبه سنة 1999 بعد سنوات من انقلاب الجيش الجزائري على جبهة الإنقاذ الإسلامية، وحل البرلمان والبلديات، وما تلى ذلك من صدامات بين الإسلاميين والجيش راح ضحيتها مئات الآلاف ).